المقالات والمطويات » المقالات » فقة منتجات العمل الخيري » حكام الاستقطاعات الدورية في المؤسسات الخيرية

حكام الاستقطاعات الدورية في المؤسسات الخيرية

حكام الاستقطاعات الدورية في المؤسسات الخيرية

أحبُّ العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه، وسعي أيّ مؤسسة خيريّة لاستمرار أعمالها وثباتها هو محل النجاح، لكن لما قلت الأوقاف أو ندرت - وكانت في الزمن الماضي هي الرافد الأساسي لدعم المشاريع الخيرية التي تتسم بالاستمرار- لجأت المؤسسات الخيرية لتكفي نفسها من الاستقطاعات الدورية.

 

والاستقطاع في مصطلح العمل الخيري: تبرعٌ دوري من المتبرع للمؤسسة الخيرية؛ بخصم جزء معين من راتبه كل فترة محددة، غالبًا ما تكون شهرية أو سنوية، دون إعلامه بذلك في كل مرة، حيث يُكتفى بموافقته على ذلك ابتداءً، وعدم قطعه للتبرع بعد ذلك،[1] وفي اعتماد المؤسسات الخيرية على الاستقطاعات الدورية مزايا كثيرة، منها: [2].

1- أنها تحقق الاستقرار النسبي للموارد المالية للمؤسسات الخيرية، وتؤدي إلى التخفيف من تذبذب التبرعات بين الفترة والأخرى.

2- وضوح الرؤى المستقبلية لدى المؤسسات الخيرية، بما يحقق تخطيط  مبكر واستراتيجي.

3- أن المؤسسات الخيرية لا تحتاج إلى إقناع المتبرعين بالتبرع لها إلا مرة  واحدة فقط، فهو عبءٌ مؤقت، وخيرٌ مستمر.

4- أن ارتباط المتبرع بشكل مستمر بالصدقة يزكي نفسه، ويـبارك له في  حياته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ العمل إلى الله أدومه، وإن قل"، متفق عليه [3].

 

ولما كانت هذه الاستقطاعات بمثابة وعد بالتبرع، تخرجت على مسألة حكم الوفاء بالوعد، وقد اختلف أهل العلم في حكمها على قولين، أصحهما الوجوب؛ لما أخرجه الشيخان[4] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول  الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف"، خصوصًا إذا ترتب على إخلافه ضرر بالغير، وعليه فيجب على من وعد بالتبرع بمبلغ دوري أن يفي بذلك ما استطاع؛ لما يترتب على وعده من التزامات بين المؤسسة الخيرية والمستفيدين.

 

والاستقطاعات في صورها اليومية أو الشهرية أو نصف سنوية أو السنوية من المدخلات التي تتسم بالثبات والاستمرار النسبي، ومن خلال هاتين السمتين البارزتين يتأكد على المؤسسات الخيرية الاعتناء بهذه الاستقطاعات عن طريق الاهتمام بما يلي: [5]

1- تفعيل كافة الوسائل لإقناع المتبرعين بأهمية الاستقطاع الدوري وعظيم منفعته، من خلال النشرات التعريفية، والخطب المنبرية، والبرامج المسموعة والمرئية.

 

2- تيسير عملية الاستقطاع على المتبرعين، بحيث لا يتكلف المتبرع التحويل كل مرة، وعلى المؤسسات الخيرية أن تسعى إلى تطوير وسائل الاستقطاع الآني، عن طريق الحسابات المصرفية، أو قطاعات صرف الرواتب، أو من خلال بطاقات الصراف الآلي أو البطاقات الائتمانية.

 

3- إطلاع المتبرعين على جهود المؤسسة وأنشطتها، وشكرهم المستمر على استمرار تبرعهم.

 

4- اعتماد الآليات التي تكفل التقليل من تكاليف عملية الاستقطاع؛ لضمان الاستفادة من أكبر قدر من التبرع، وهل يجوز للمؤسسات الخيرية فتح حسابات في البنوك الربوية لتوفير الخصومات الكثيرة التي تخصمها هذه البنوك في حال تحويل أموال التبرعات من رصيد عميلٍ لديها إلى حساب المؤسسة في بنك آخر؟.

 

جاء في فتاوى الهيئة العليا للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية بالقاهرة ما نصُّه: [6] "الأصل ألا يتعامل البنك الإسلامي مع البنوك الربوية،  ولو لم تشتمل المعاملة على الربا إلا إذا دعت حاجة أو مصلحة معتبرة شرعًا إلى هذا التعامل غير الربوي".

 

ومسألتنا شبيهة بتلك، وهي خاضعةٌ لقاعدة تزاحم المصالح والمفاسد، ويضبط هذا التزاحم ما يلي:

أ- مرجحات جانب المصلحة:

1- الترجيح بين المصالح والمفاسد بحسب ترتيب الضرورات الخمس: الدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم العرض، ثم المال.

والتبرعات التي تحصل عليها المؤسسات الخيرية تنفق في مجالات تخدم حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، بينما المفسدة المترتبة تتعلق بجانب حفظ المال فقط.

 

2- تقديم المصلحة المتعدية على المفسدة القاصرة، والتبرعات أثرها يتعدى المتبرع إلى غيره من المستحقين، بينما المفسدة غير متعدية.

 

3- تقديم المصلحة المقطوع بها على المفسدة المظنونة، ومصلحة توفير الخصومات البنكية مقطوع بها، ومفسدة الوقوع في الربا بعيدة في حالة فتح الحسابات الجارية، وتفعيل سحبها مباشرة إلى حسابات في مصارف إسلامية، وكذا مفسدة تشجيع الغير على التساهل في التعاملات البنكية المحرمة هي مفسدة مظنونة.

 

ب- ومرجحات جانب المفسدة:

1- أن المفسدة متعلقة بالتحريم، بل الربا من كبائر الذنوب، بينما المصلحة متعلقة بالندب، والحظر مقدم على الاستحباب.

2- أن المفسدة لا مندوحة عن الوقوع فيها، والمصلحة قد تتحقق بوسائل أخرى دون ارتكاب المحرم، ودفع المتعين أولى من جلب غير المتعين.

3- أنه على فرض التساوي، فإن درء المفاسد أولى من جلب المصالح.

 

والذي يقوى في هذا الباب تقديم مصلحة توفير الخصومات البنكية على مفسدة الإعانة غير المباشرة في استغلال أموال الصدقات في الربا،[7] وثمة إشارات فقهية شهدت لتقديم ما سبق من المصالح على ما ذُكر من المفاسد:

‌أ- أن تقديم المصلحة المتعلقة بحفظ الضروريات الخمس على المفسدة المتعلقة بحفظ المال شهدت لها الشريعة من خلال إباحة بيع العرايا[8] لما تعلقت به حاجة الناس.

 

‌ب- أن تقديم المصلحة المتعدية إلى عموم المستفيدين على المفسدة القاصرة على البنك، شهد لها في هذا الباب قبول الشريعة صدقة الفاسق بكسبه، لعموم نفعها، واقتصار الإثم عليه.

 

‌ج- أن المفسدة يمكن دفعها بسحب الأرصدة المحوّلة على نحوٍ متقارب.

 

وما اخترته من جواز فتح الحسابات للمؤسسات الخيرية في البنوك الربوية مقيد بالشروط التالية:

1- أن تكثر الحوالات من البنك الربوي؛ بحيث يُتيقن من وجود المصلحة في فتح الحساب في هذا البنك.

2- أن تجعل المؤسسة الخيرية حسابها حسابًا جاريًا، وتفعّل سحب أرصدتها منه أولاً بأول.

3- أن تكون الخصومات التي يستقطعها البنك الربوي في حالة التحويل الخارجي كبيرة بالنسبة للتحويلات الداخلية.

4- وقد يغني عن فتح حساب إرسال مندوب لاستلام هذه الاستقطاعات شهريًا إن تيسر.

 

وهل يجوز للمؤسسة الخيرية أن تقبل تبرعات البنك الربوي بعد فتحها حسابًا فيه؟.

الجواب: يجوز قبول المؤسسات الخيرية لتبرعات البنوك الربوية،[9] لكن إذا  كانت تلك التبرعات قد حصلت بعد فتح المؤسسة الخيرية حسابًا في هذه البنوك، فهل يقال: إن صورة المسألة صورة قرض جر نفعًا؛[10] فهو ربا؟.

 

الأقرب الجواز بشرط ألا تكون هذه التبرعات مشروطة بفتح الحساب في البنك، وألا يتأثر قدرها بمقدار رصيد المؤسسة الخيرية؛[11] ليتأكد أنها لم تكن بسبب فتح الحساب في هذه البنوك، والله أعلم. [12]



[*] مختص في فقه منتجات العمل الخيري.

[1] ينظر: تنمية الموارد البشرية والمالية، للعلي، ص(164).

[2] ينظر: مشروع الصدقة الالكترونية، للطفي، ص(502).

[3] أخرجه البخاري في كتاب (81) الرقاق، باب (18) القصد والمداومة على العمل، ص(1365)، برقم6464، ومسلم في كتاب (511) صفة القيامة والجنة والنار، باب (17) لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى، ص(1133-1134)، برقم2818، عن عائشة رضي الله عنها.

[4] أخرجه البخاري في كتاب (52) الشهادات، باب (28) من أمر بإنجاز الوعد، ص(536)، برقم2682، ومسلم في كتاب (1) الإيمان، باب (25) بيان خصال المنافق، ص(56)، برقم59.

[5] ينظر: الموارد المالية لمؤسسات العمل الخيري المعاصر، دراسة فقهية تأصيلية، د. طالب الكثيري، ص(516-5199).

[6] فتاوى شرعية في الأعمال المصرفية، ص(41-42)، صادرة عن  الاجتماع الأول للهيئة العليا للفتوى والرقابة الشرعية للبنوك الإسلامية بالقاهرة في 30 جمادى الثاني 1403هـ، الموافق 13 من إبريل 1983م، من مطبوعات بنك دبي الإسلامي، ط1، 1406هـ-1985م.

[7] ينظر: فتاوى قطاع الإفتاء بالكويت، (10/ 172)، و(4/ 183)، و(8/ 156)، وأحكام وفتاوى الزكاة والصدقات، لبيت الزكاة- الكويت، ص(211- 212)، 1419هـ- 1999م، وقرارات وفتاوى المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ص(115)، وتراجع: فتاوى اللجنة الدائمة، (13/ 369-370)، وينظر القول بعدم الجواز فتوى لجنة الفتوى بجمعية إحياء التراث الإسلامي، رقم (582)، بتاريخ 21/ 12/ 1424هـ، ضمن الفتاوى الخيرية، ص(146-147).

[8] بيع العرايا هو بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر كيله من التمر خرصًا  فيما دون خمسة أوسق، قاله الشافعي وأحمد، وينظر أقوال أخرى، الإعلام، لابن الملقن، (7/ 135-1136).

[9] ينظر: الموارد المالية لمؤسسات العمل الخيري، د. طالب الكثيري، ص(4977).

[10] ينظر: الأشباه والنظائر، لابن نجيم، ص(265)، وروضة الطالبين، للنووي، (4/ 34)، والمغني، لابن قدامة، (4/ 3900).

[11] ينظر: فتاوى الهيئة الشرعية بالندوة العالمية للشباب الإسلامي، محضر الاجتماع السادس بتاريخ 2/ 1/ 1423هـ، ص(300).

[12] ينظر: الأشباه والنظائر، لابن نجيم، ص(265)، وبداية المجتهد، لابن رشد، (2/ 162)، وتكملة المجموع، للسبكي، (11/ 1477)، والمغني، لابن قدامة، (4/ 390).

 

حقوق النشر محفوظة لدى موقع الشيخ طالب بن عمر الكثيري (©)