شراء عقار وقفي بثمن مؤجل

شراء عقار وقفي بثمن مؤجل

تعجز أغلب الأوقاف اليوم أن تقوم بدورها في سدّ احتياجات المستحقين لريعها؛ نتيجة الإهمال الذي تلاحق عليها، والمستحقات التي استنـزفتها، مما جعل التفكير في طرق تنمية ريعها، وتعمير أصلها من أهمّ المشكلات التي تؤرق المؤسسات الخيرية.

 

وحيث إن تمويل الوقف من القروض أو من عقود السلم لم يعد متاحًا مع تزايد الحاجة لتعمير واستثمار كثير من الأوقاف، ولما كان عقد الإجارة الطويلة أو الإجارتين[1] - المعتمد سابقًا- يرهق الوقف، ويجعل الاستفادة  من ريعه شبه منعدمة، تأكدت الحاجة إلى النظر في مدى مشروعية الاستفادة من الصيغ الاستثمارية المستجدة لتنمية الأموال وفق قواعد الشريعة عمومًا، وضوابط فقه الوقف خصوصًا.

 

ومن الصيغ المستجدة ما أطلق عليه بعض الباحثين استثمار الوقف بأموال الغير-[2] ومنه:

استثمار الأوقاف عن طريق شراء عقار يُبنى على أرض الوقف بثمن مؤجل:

أولاً: صورة المسألة: [3]

أن تسمح جهة الوقف لجهة ممولة بأن تبني بناءً على أرضها، وتتعهد بشرائه منها بعد اكتماله بثمن مؤجل على أقساط، وتراعي جهة الوقف أن تكون هذه الأقساط أقل من الأجرة المتوقعة من تأجير هذا البناء، بحيث تصرف الجزء الأكبر من أجرة البناء في سداد قسط الجهة الممولة، وتبقي جزءًا أقل لمصارف الوقف، وتستمر في تسديد الأقساط حتى تتمكن من سداد كامل المبلغ المتفق عليه، ويصبح البناء ملكًا لها. [4]

 

ثانيًا: التخريج الفقهي لهذه الصورة:

تُحتمل لهذه الصورة أربعة تخريجات:

التخريج الأول: أنه بيع بالتقسيط.

ووجه هذا التخريج: أن الجهة الممولة باعت البناء على إدارة الأوقاف بثمن مؤجل مقسط.

 

ويرد على هذا التخريج:

1- أن الاتفاق لم يتم على مبيع موجود حال العقد، بل على مبيعٍ موصوفٍ في الذمة غير مملوك للبائع، وهذا ما لا يجوز في بيع التقسيط؛ حيث يعد من بيع ما لا يملك.

2- أنه تم الاتفاق في هذا العقد على تأجيل العوضين، ولابد في بيع التقسيط من تسليم المبيع.

وقد يجاب: أن اتفاق البيع إنما يتم بعد إكمال الجهة الممولة للبناء.

ونوقشت هذه الإجابة: بأن كلا الجهتين - جهة الوقف وجهة التمويل- لن تطمئن ما لم يتفق على البيع مسبقًا؛ كما هو الواقع.

 

التخريج الثاني: أنه عقد سلم.

ووجه هذا التخريج: أنه تم الاتفاق على أن تسلم الجهة الممولة المبيع (البناء) لجهة الوقف بالمواصفات المحددة في وقتٍ مؤجل متفق عليه.

ويرد على هذا التخريج: أن الثمن في هذا العقد مؤجل، ويشترط في بيع السلم كون الثمن معجلاً في مجلس العقد. [5]

 

التخريج الثالث: أنه عقد إجارة.

ووجه هذا التخريج: أن جهة الوقف تعاقدت مع مقاول لبناء أرضها بمواصفات معينة، فكان عمله من قبيل عمل الأجير المشترك. [6]

نوقش هذا التخريج: بأن مواد العمل من قبل العامل، فكان ذلك أقرب لعقد الاستصناع منه إلى الإجارة. [7]

 

التخريج الرابع: أنه عقد استصناع.

ووجه هذا التخريج: أن جهة الوقف طلبت من الجهة الممولة أن تبني لها هذا البناء على الأرض الوقفية، بشروط محددة، ولا حرج من تأجيل العوضين في عقد الاستصناع.

ويرد على هذا التخريج: أن عقد الاستصناع عقد بيع لمبيع بشرط العمل، والجهات الممولة لا تقوم غالبًا بالبناء، بل توكل غيرها.

 

ويمكن أن يجاب من وجهين:

الوجه الأول: أن الجهة الممولة تعهدت بالصنع، ولها أن تتعاقد مع غيرها  بطريق الاستصناع الموازي – أو ما يسمى الاستصناع من الباطن- على نفس المواصفات المتفق عليها. [8]

 

والوجه الثاني: أن من أهل العلم من عرف الاستصناع بأنه بيع عين موصوفة في الذمة لا بيع عمل،[9] وهذا أقرب؛ إذ إن الصانع لو قدم لطالب  الصنعة ما صنعه قبل إبرام العقد وكان وفقًا للمواصفات المتفق عليها جاز ذلك، ولو كان شرط العمل من نفس العقد لما جاز؛ لأن الشرط يقع على العمل في المستقبل لا في الماضي. [10]

 

ثالثًا: الترجيح بين التخريجات السابقة:

يترجح مما سبق أن هذه الصورة أقرب إلى عقد الاستصناع، وهو عقد جائز، فلا حرج على المؤسسات الخيرية من الأخذ بهذه الصيغة، بل إن استثمار الأوقاف بموجب هذه الصيغة يفضُل غيرها من جهات:

1- أن هذه الصيغة تنتهي بمديونية جهة الوقف للجهة الممولة، وبها يكون المشروع ملكًا لجهة الوقف تديره حسب المصلحة.

 

2- أنها تتفق مع رغبة كلٍ من جهة الوقف والجهة الممولة في قطع الشراكة بينهما؛ إذ لا ترغب جهة الوقف في إدخال طرف شريك لها في استثمار الوقف، كما تحرص الجهة الممولة على الخروج من المشروع بعد استعادة تكلفته مع ربحٍ مناسب.

 

3- إمكان حصول جهة الوقف على أسعار تنافسية من الجهات الممولة، تخوّلها لاختيار السعر المناسب عند طرحها للمشروع في المناقصات العامة.



[*] مختص في فقه منتجات العمل الخيري.

[1] عقد الإجارتين يعني لجوء ناظر الوقف بإذن القاضي إلى إجارة عقار  الوقف الخرب؛ الذي لا يدر أي عائد، إجارة طويلة بأجرة معجلة تقارب قيمة العقار، وأخرى مؤجلة سنوية تدفع على أقساط، وتكون عادة ضئيلة جدًا، وإنما يُلجأ إليها لكي لا تتحول صورة العقد إلى بيع أو إجارة طويلة، وعلى ضوء ذلك يكون لدافع الأجرة التصرف في منافع العقار، ويحق له بيعها وإجارتها، وتورث عنه إلى أن ترجع بعد المدة الطويلة للوقف، ينظر: فتاوى الزرقا، (468-469)، وتنمية موارد الوقف والمحافظة عليها، للصادق العياشي، ص(23).

[2] ينظر: استثمار موارد الأوقاف(الأحباس)، لخالد الميس، (1 /637)، ضمن مجلة المجمع، العدد13.

[3] ينظر: الموارد المالية لمؤسسات العمل الخيري المعاصر، دراسة فقهية تأصيلية، د. طالب الكثيري، ص(677-6800).

[4] ينظر: أساليب استثمار الأوقاف وأسس أدارتها، لنزيه حماد، ص(184)، واستثمار موارد الأوقاف (الأحباس)، لخليفة الحسن، ص(90).

[5] ينظر: رد المحتار، لابن عابدين، (7 /464)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (4 /315)، والمهذب، للشيرازي، مع المجموع، (13 /1166)، والمغني، لابن قدامة، (6 /216).

[6] أورده د. سعد بن ناصر بن عبد العزيز الشثري في الطرق الشرعية لإنشاء المباني الحكومية، ص(144).

[7] ينظر: المصدر السابق، ص(16).

[8] ينظر: تنمية موارد الوقف، للعياشي، ص(29).

[9] ينظر: رد المحتار، لابن عابدين، (7 /476).

[10] ينظر: استثمار موارد الأوقاف (الأحباس)، لبابكر الحسن، ص(90-91).

 

حقوق النشر محفوظة لدى موقع الشيخ طالب بن عمر الكثيري (©)