المقالات والمطويات » المقالات » فقة منتجات العمل الخيري » استثمار أموال الصدقات وغلال الأوقاف الخيرية

استثمار أموال الصدقات وغلال الأوقاف الخيرية

استثمار أموال الصدقات وغلال الأوقاف الخيرية

أولاً: صورة المسألة:

التبرعات التي تجمعها المؤسسات الخيرية على أربعة أنواع:

أ- التبرعات المطلقة غير المؤقتة: وهي التبرعات التي لم يُحدد لها مصرف  معين، ولم يشترط صرفها في موعد محدد.

 

ب- التبرعات المطلقة المؤقتة: وهي التبرعات التي لم يُحدد لها مصرف  معين، لكن صرفها مؤقت بزمن محدد.

وهذه التبرعات للمؤسسة الخيرية حق التصرف فيها بحسب الأصلح للمتبرع، ولها أن تستثمرها؛ لإطلاق الإذن من الموكل، لكن إن قيدت بزمنٍ محددٍ للصرف، وجب ألا يتأخر موعد صرفها عما حُدد لها.

 

ج- التبرعات المقيدة بمصرف معين، ولم يُقيد صرفها في موعدٍ محدد.

 

د- التبرعات المقيدة بمصرف معين، وقيد صرفها بموعد محدد.

 

ولهذه التبرعات حالات:

1- أن يتبرع بها المتبرع لأجل أن تستثمر: فالواجب في هذه الحالة على  المؤسسات الخيرية أن تستثمرها.

 

2- أن يحين وقت صرفها إن كانت مؤقتة، أو تتحقق المصلحة في صرفها  فيما خُصصت له إن كانت غير مؤقتة: فيجب صرفها عندئذٍ.

 

3- أن يتأخر صرف هذه التبرعات المقيدة، وهذه صورة المسألة: فهل يجوز  أن تستثمرها المؤسسات الخيرية؟.

 

ثانيًا: التخريج الفقهي لهذه المسألة: [2]

للمسألة أحد تخريجين:

التخريج الأول: أن تقاس على حكم استثمار أموال الزكاة.

ووجه التخريج: أن الزكاة محددة المصارف؛ فتلحق بها التبرعات المقيدة.

ويترتب على التخريج: منع استثمارها؛ لأن أصح الأقوال القول بمنع استثمار أموال الزكاة. [3]

 

ويعترض على هذا التخريج: أن المقصد الرئيسي من الزكاة هو سدّ الحاجات الأساسية والفورية للمستحقين؛ وبهذا السبب منع من استثمارها؛ بخلاف التبرعات المقيدة التي لم يقصد بها ذلك.

 

التخريج الثاني: أن تقاس على حكم استثمار تبرعات كفالات الأيتام.

ووجه هذا التخريج: أن تبرعات كفالات الأيتام؛ تبرعات مندوبة محددة المصرف؛ فأشبهت التبرعات المندوبة الأخرى التي حُدد مصرفها.

 

ويترتب على هذا التخريج: جواز استثمار أموال التبرعات المقيدة متى تأخر صرفها؛ لأن أصح الأقوال القول بجواز استثمار التبرعات المخصصة لكفالة الأيتام إذا تأخر صرفها. [4]

واعترض على هذا التخريج: أن مال اليتيم يستثمر؛ لئلا تأكله النفقة، بخلاف أموال التبرعات العامة.

 

وأجيب من وجهين:

الأول: أن الإنفاق من هذه التبرعات على المستحقين سيؤدي كذلك إلى  نفاذها.

والثاني: أن القيمة الشرائية للنقد في تراجعٍ مستمر، وهذا في حدّ ذاته  نقصان للمال لو عطّل دون استثمار وتنمية.

 

القول المخـتار من التخريجين السابقين:

التخريج الثاني هو الأقرب؛ لقوة الشبه بين التبرعات المخصصة في بعض سبل الخير والتبرعات المخصصة في كفالات الأيتام من جهة كونها تبرعات مندوبة، وأنها قيدت بإرادة المتبرع، لا الشارع، وأنها قد تأخر صرفها.

 

ثالثًا: حكم استثمار غلال الأوقاف والتبرعات محددة المصرف:

اختلف المعاصرون في حكم استثمار هذه التبرعات على قولين:

القول الأول: جواز استثمار هذه التبرعات.[5]

واُستدل لهذا القول:

1- بالقياس على جواز استثمار أموال التبرعات الخاصة بكفالات الأيتام.

ونوقش هذا الاستدلال، وأجيب عن المناقشة بما سبق.

 

2- قياس استثمار أموال التبرعات المقيدة على مشروعية استثمار أموال الأوقاف وتنميتها؛ وإن كانت مصارفها مقيدة.

وقد يناقش: بأن الواقف تصدق بثمرة ماله، ومنع من التصرف في عينه؛ فجاز استثماره له، بخلاف المتبرع الذي أمر بصرف عين ماله.

 

القول الثاني: عدم جواز استثمار هذه الأموال.[6]

واُستدل لهذا القول:

1- أن المستحقين لهذه التبرعات لم يوكلوا المؤسسات الخيرية في استثمار حقوقهم، وأن المتبرعين لم يأذنوا في ذلك لا نطقاً ولا عرفًا. [7]

 

وأجيب: أن الوكيل يتصرف بالأصلح للموكل، فإذا تقرر أن الأصلح استثمار هذه التبرعات - في حالة تأخير صرفها - جاز ذلك؛ خصوصًا أن مقاصد الصدقات العامة أوسع بكثير من مقاصد الزكاة أو حفظ حقوق الأيتام.

 

2- أنه يلزم من استثمار أموال التبرعات تأخير صرفها، وتعريضها للضياع.[8]

وأجيب: أن جواز الاستثمار مشروط بعدم حصول ضرر على المستحقين؛ سواءً في خسارة الأموال المستثمرة، أم في تأخير صرف استحقاقاتهم.

 

القول المخـتار في هذه المسألة:

لما سبق التأكيد على أن الشارع ندب إلى استثمار أموال اليتامى، تأكد من باب أولى استثمار أموال الصدقات وغلال الأوقاف؛ حتى يحين وقت صرفها، وتظهر هذه الأولوية من عدّة جهات:

1- اشتراك الجهات المستحقة للصدقات مع الأيتام في حاجتها لاستثمار أموالها؛ بجامع الضعف والعجز في كليهما. [9]

 

2- أن استحقاق الأيتام لأموالهم استحقاق ملك، ومع هذا جاز الاستثمار لمصلحتهم؛ فمن الأولى أن يجوز في أموال الصدقات والأوقاف؛ إذ استحقاق المحتاجين لها استحقاق اختصاص لا ملك، قال إلكيا الهراسي - رحمه الله - في شأن المستحقين للزكاة - فضلاً عن الصدقات-: "وإنما لم يجعله تمليكًا حقيقةً؛ من حيث جُعل لوصفٍ لا لعينٍ، وكل حقٍ جُعل لموصوفٍ، فإنما لا يملكه إلا بالتسليم". [10]

 

3- أن اعتناء الشرع بحفظ الحقوق العامة أعظم من اهتمامه بحفظ الحقوق الخاصة؛ لما في الحقوق العامة من مراعاة للمصالح الكبرى، قال العز بن عبد السلام - رحمه الله - عند تعليقه على قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [11]: "وإن كان هذا في حقوق اليتامى، فأولى أن يثبت في حقوق عامة المسلمين فيما يتصرف فيه الأئمة من الأموال العامة؛ لأن اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة".[12]

 

وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية عن جمعية خيرية تريد استثمار أموالها، فأجابت: "إذا كان المال المذكور في السؤال من الزكاة؛ فالواجب صرفه في مصارفه الشرعية من حين يصل إلى الجمعية، وأما إن كان من غير الزكاة؛ فلا مانع من التجارة فيه لمصلحة الجمعية؛ لما في ذلك من زيادة النفع لأهداف الجمعية وللمساهمين فيها".[13]

 

ومن هذه الأهمية اعتنت كثير من المؤسسات الخيرية باستثمار مواردها المالية من الصدقات، وعلى سبيل المثال: فقد بلغت الاستثمارات في مؤسستي الحرمين الخيرية والندوة العالمية للشباب الإسلامي نسبة 39.43% من إجمالي التبرعات المقيدة، ونسبة 67.43% من إجمالي التبرعات المطلقة.[14]

 

ومع أهمية الاستثمار بالنسبة للمؤسسات الخيرية - خصوصًا مع ضعف الموارد وشحها - فإن هذا الاستثمار لا بدّ أن يخضع للضوابط التالية:[15]

1- الموازنة بين الاحتياجات العاجلة لمستحقي الصدقات وريع الأوقاف، والحاجة إلى تنمية الأموال واستثمارها طلبًا لزيادة الأرباح.

 

2- مراعاة شروط المتبرعين والواقفين، وعدم تأخير الصدقات المؤقتة عن زمنها المحدد.

 

3- يجب أن يقتصر الاستثمار على الاستثمارات المباحة، والبعيدة عن الشبهات.

 

4- ضرورة أخذ الحيطة والحذر، ودراسة الجدوى للمشاريع قبل الإقدام عليها، والابتعاد عن الاستثمارات غير الآمنة، ولو كانت أكثر ربحًا،[16] مع  الاعتدال في النفقات المخصصة لدراسات الجدوى، بحيث لا تكون على حساب استحقاقات المنتفعين، وقد طرح بعض أهل العلم فكرة إنشاء صندوق لضمان المخاطر؛ خصوصًا عند الهزات الاستثمارية العنيفة، بحيث يكون صندوق تأمينٍ تعاوني حقيقي، يمول من استقطاعات الأفراد أو المؤسسات، وتوضع له لوائح محددة. [17]

 

5- الحرص على الإشراف والمتابعة والرقابة المستمرة من قبل أهل الخبرة والأمانة على هذه الاستثمارات.

 

6- شفافية المؤسسات الخيرية في عرض آلية سير الاستثمارات وأرباحها، بما يحقق زيادة ثقة الناس بها، وتوثيق عقود الاستثمار لصالح المؤسسة الخيرية باعتبار شخصيتها الاعتبارية، مع سدّ باب التعاملات الاستثمارية مع بعض منسوبي المؤسسة الخيرية إلا بالأحظ للمؤسسة.

 

7- إنشاء جهاز إداري مستقل تابع للمؤسسة الخيرية، ومتخصص في إدارة استثماراتها؛ بحيث لا تتأثر المؤسسة نتيجة خسارة بعض الاستثمارات.

 

8- تصريح المؤسسات الخيرية بصرف نسبة معينة من التبرعات التي تجمع في استثمارات يعود ريعها إلى المصارف الخيرية يجعلها أكثر وضوحًا مع المتبرعين والآخرين.

 

9- تكوين صندوق مشترك بين المؤسسات الخيرية لإنشاء تكتلات مالية كبيرة، تستطيع أن تدخل في مشاريع ذات ريع كبير؛ أسوة بتكتلات القطاع الخاص.

 

10- وقد ظهر الخلاف بين بعض الباحثين أيهما أولى بالتقديم؛ المنفعة الاقتصادية أم المنفعة الاجتماعية؟.

وتوضيح هذا الخلاف في المثال التالي: لو أن متصدقًا تبرع بمبلغٍ من المال، ورغبت المؤسسة الخيرية في استثماره، فهل الأولى أن تستثمره في مشاريع إنتاجية صغيرة، ريعها الاقتصادي قليل، لكن منفعتها الاجتماعية في تشغيل عدد من الأسر المنتجة كبيرة، أو يستغل المبلغ في مشروع اقتصادي كبير الريع، يعود بالربح الوفير، وينفق بعدُ من أرباحه في تغطية احتياجات اجتماعية أكبر؟.

 

وقد مثلَّ بعضهم: بمشروعين؛ الأول للإسكان الشعبي، يدر عائدًا اقتصاديًا قليلاً، لكنه يفيد فئات تشتد حاجتها للسكن، والثاني للإسكان المتوسط والعالي، ويدر عائدًا اقتصاديًا أكبر.[18]

 

القول الأول: أن تقديم المنفعة الاجتماعية أولى. [19]

واستدلوا: بأن مقصود المتبرع والمؤسسة الخيرية حصول النفع الاجتماعي للمستحقين بالدرجة الأولى، فتقدم هذه المصلحة على غيرها.

 

القول الثاني: أن تقديم المنفعة الاقتصادية أولى. [20]

واستدلوا:

 بأن العائد الاقتصادي على المستحقين سيكون أكبر بما يحقق لهم سدّ  احتياجاتهم الاجتماعية بشكل أكبر.

 وقد يكون للأموال المستثمرة جهة استحقاق معينة، ورجوع عائد  الاستثمار لهم مقدم على رجوع النفع الاجتماعي لغيرهم؛ لأن المتولي على الوقف كولي اليتيم، ليس له أن يتبرع لمصالح اجتماعية على حساب أموال اليتيم. [21]

 

القول المختـار:

أن الجمع بين المصلحتين أمثل إن أمكن، وإلا نُظر لجهة التبرع، فإن كان لجهة مخصوصة قدمت المشاريع ذات المنفعة الاقتصادية الأعلى، والتي ستوفر لأهل هذه الجهة مردودًا أكبر ينتفعون به في المستقبل؛ لأنهم أولى من غيرهم في الانتفاع بمردود ما خُصص لهم، وإن كان لجهة عامة، روعيت المنفعة الاجتماعية التي ستعود على أهل هذه الجهة؛ لأن الأصل في قصد المتبرعين والمؤسسة الخيرية النفع الاجتماعي، ولو كان قليل الريع، وهذا النظر عائد لكون المؤسسة في مقام الوكيل، ويجب على الوكيل أن يتصرف بما هو الأصلح للموكل، ولعلنا نستضيء بهذه الإشارة لابن عاشور - رحمه الله - يقول: "وإن من أكبر مقاصد الشريعة: الانتفاع بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوه جامعة بين رعي المنفعة العامة، ورعي الوجدان الخاص؛ وذلك بمراعاة العدل مع الذي كدّ لجمع المال وكسبه، ومراعاة الإحسان للذي بطّأ به جهده، وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية".[22]



[1] مختص في فقه منتجات العمل الخيري.

[2] ينظر: الموارد المالية لمؤسسات العمل الخيري المعاصر، دراسة فقهية تأصيلية، د. طالب الكثيري، ص(605 - 6122).

[3] ينظر: المصدر السابق، ص(560 - 587).

[4] ينظر: المصدر السابق، ص(592 - 603).

[5] ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة، (9/ 404)، وأحكام وفتاوى الزكاة، لبيت الزكاة، ص(146)، وفتاوى قطاع الإفتاء بالكويت، (5/ 1122)، والفتاوى الخيرية، للقدومي، ص(114 - 115)، ضمن إجابة ابن عثيمين عن الأسئلة المقدمة من جمعية إحياء التراث الإسلامي، و100 سؤال وجواب في العمل الخيري، لابن جبرين، ص(39)، والفتاوى الجبرينية، ص(22)، والفتاوى المتصلة بكفالة الأيتام، لمحمد بن إسماعيل العمراني، ص(2)، وفتاوى معاصرة، للقرضاوي، (3/ 257)، والصناديق العائلية الخيرية وأحكامها الفقهية، لمنصور السلامة، ص(55).

[6] وهو رأي د. عبد الكريم زيدان، وينظر: أحكام صدقة التطوع، للعريفي، ص(2822).

[7] ينظر: المصدر السابق، ص(277)، وص(279).

[8] ينظر: المصدر السابق، ص(279)، وص(281).

[9] ينظر: الجوانب الشرعية في تنمية الموارد، للسهلي، ص(9)، واستثمار موارد الأوقاف، لبابكر الحسن، ص(677).

[10] أحكام القرآن، (3/ 206).

[11] [الأنعام:152].

[12] قواعد الأحكام، (2/ 252).

[13] فتاوى اللجنة الدائمة، (9/ 404).

[14] ينظر: العمليات المالية للمؤسسات الخيرية، دراسة فقهية تطبيقية  على الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ومؤسسة الحرمين الخيرية، لمحمد المصري، ص(465، و473).

[15] ينظر: أحكام استثمار الموقوف وغلاته، للقره داغي، ص(354 - 355)، وقرار مجمع الفقه الإسلامي برقم 140، (6/ 155) بشأن الاستثمار في الوقف، وفي غلاته وريعه، ضمن مجلة المجمع، العدد 15، (3/ 526 - 527)، فقرة 9.

[16] عرض د. يوسف الشبيلي بعض الاستثمارات المأمونة والتي تتميز  بالقدرة على تسييلها سريعًا، من ذلك: صناديق المرابحة، وصكوك الإجارة، والاكتتابات الأولية للأسهم - دون مخاطرة شرائها من الشاشة-، وتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة بالوساطة بين أرباب الأموال وذوي الاحتياجات، وتقديم الخدمات للتجار؛ كحساب الزكاة أو أموال التخلص مقابل أجر، ينظر لهذا: اللقاء السنوي الثامن للجهات الخيرية، ندوة فرص استثمارية.

[17] ينظر: المصدر السابق، ندوة فرص استثمارية، بحث الشيخ عبد  الرحمن الأطرم.

[18] ينظر: الوقف النقدي، لشوقي أحمد دنيا، (1/ 518 - 519)، ضمن مجلة المجمع، الدورة 13، وقارن بالوقف الإسلامي، لقحف، ص(2344).

[19] ينظر: استثمار الوقف، لحسين شحاتة، بحث منشور ضمن أعمال منتدى قضايا الوقف الفقهية الأول بالكويت، ص(1677)، عن استثمار الوقف، للصقيه، ص(92).

[20] ينظر: الوسائل الحديثة للتمويل والاستثمار، لأنس الزرقا، ص(187)،  ضمن أبحاث إدارة وتثمير ممتلكات الأوقاف، والوقف الإسلامي، لقحف، ص(231).

[21] ينظر: الوسائل الحديثة، للزرقا، ص(188).

[22] تفسير التحرير والتنوير، (3/ 44 - 45).

حقوق النشر محفوظة لدى موقع الشيخ طالب بن عمر الكثيري (©)