حكم استقطاع المؤسسات الخيرية من التبرعات المخصصة لكفالات الأيتام
حكم استقطاع المؤسسات الخيرية من التبرعات المخصصة لكفالات الأيتام
تعد مشاريع كفالة الأيتام أكثر المشاريع التي يتم التبرع لها، ثم تليها مشاريع الصدقة الجارية؛ وخصوصًا بناء المساجد،[1] وتستقطع المؤسسات الخيرية من كفالات الأيتام لأحد ثلاثة أسباب:
الأول: في مقابل ما تقوم به من جهود في القيام باحتياجات اليتيم، ومتابعته، والتسويق لكفالته.
الثاني: معاقبة لليتيم على تأخره عن أداء واجبه التربوي، أو غيابه عن بعض الأنشطة التي تنظمها المؤسسة.
والثالث: توفير المبالغ المستقطعة لشراء بعض الاحتياجات الخاصة باليتيم مستقبلاً، أو الاحتياجات العامة للأيتام؛ كشراء حافلة لهم، أو إنشاء مرفق تعليمي ونحوه.
التخريج الفقهي لهذه الصور: [2]
التخريج الفقهي للصورة الأولى وهي الاستقطاع من كفالة اليتيم مقابل جهود المؤسسة في القيام باحتياجاته، ومتابعته، والتسويق لكفالته:
تتخرج هذه الصورة على أحد تخريجين:
التخريج الأول: أن هذا الاستقطاع يعد من أكل الوصي من مال اليتيم بالمعروف. [3]
وجه هذا التخريج: أن المؤسسة تقوم بما يقوم به وصي اليتيم من توفير احتياجاته، وتربيته، وقد أباح الله تعالى لوصي اليتيم أن يأكل من ماله بالمعروف، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [4].
ويرد على هذا التخريج ثلاثة أمور:
الأول: أن المال المدفوع للكفالة ليس مالاً لليتيم ابتداءً، وإنما هو مال للكافل.
والثاني: أن المؤسسة إنما تعاقدت مع الكافل عقد وكالة، ولم تتعاقد مع اليتيم عقد وصاية.
والثالث: أن الوصي لا يأكل من مال اليتيم إلا مع الفقر،[5] والمؤسسات الخيرية لا توصف بهذا الوصف.
التخريج الثاني: أن هذا الاستقطاع هو أجر للمؤسسة على عملها.
ووجه هذا التخريج: أن المؤسسة تعاقدت مع الكافل عقد وكالة بأجر على أن تقوم بكفالة اليتيم، قال ابن حزم - رحمه الله-: "ولا يحل للوصي أن يأكل من مال من إلى نظره مطارفة، لكن إن احتاج استأجره له الحاكم بأجرة مثل عمله"،[6] وقال الشربيني- رحمه الله-: "وإذا كان الناظر في أمر الطفل أجنبيًا فله أن يأخذ من مال الطفل قدر أجرة عمله"،[7] وهذا التخريج هو الأقرب لأمرين:
1- أن المؤسسة إنما تعاقدت مع الكافل، ولم تتعاقد مع الحاكم أو ولي اليتيم.
2- أن عمل المؤسسة لا يشمل إلا ما اتفق عليه مع الكافل، وقد لا تقوم بكل الأعمال اللازمة للوصي.
وعلى هذا التخريج فحكم هذا الاستقطاع جائز؛[8] لأنه مقابل جهد مبذول في عملٍ قصده المتبرع بتبرعه.
التخريج الفقهي للصورة الثانية وهي الاستقطاع من كفالة اليتيم نتيجة تأخره عن أداء الواجب التربوي المطالب به من قبل المؤسسة:
وتتخرج هذه الصورة على أحد تخريجين:
التخريج الأول: أن اليتيم أجير خاص.
ووجه هذا التخريج: أن اليتيم ملزم بحسب العقد بينه وبين المؤسسة على تنفيذ برامجها وحضور أنشطتها، والحبس على عملٍ أو وقتٍ عقد إجارة.
ويرد على هذا التخريج: أن الإجارة عقد على منافع مقصودة للمستأجر،[9] ومنفعة هذا العمل إنما تعود للأجير.
التخريج الثاني: أن هذا الاستقطاع عقوبة لليتيم، فهو من باب التعزير بالمال.
والتعزير هو عقوبة غير مقدرة شرعًا على معصية، ليس فيها حدّ ولا كفارة. [10]
وهذا التخريج هو الصواب؛ لأن مقصود المؤسسة من خصم الكفالة تأديب اليتيم، وتقويمه، وهذه حقيقة التعزير.
وقد اتفق أهل العلم على جواز التعزير،[11] واختلفوا في حكم التعزير بالمال على قولين، أرجحهما مشروعية التعزير بالمال؛ لكثرة الحوادث التي دلت على مشروعيته؛ من ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي [12] عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون، ولا يفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها، وشطر ماله عزمةً من عزمات ربنا عز وجل، ليس لآل محمدٍ منها شيء"، وما أخرجه مسلم[13] عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين،[14] فقال: "أأمك أمرتك بهذا؟"، قلت: أغسلهما، قال: "بل أحرقهما"، وحرق الثوبين عقوبة مالية.
وقد يرد على هذا التخريج: أن معاقبة اليتيم لا تدخل في باب التعزير بل هي من باب التأديب؛ إذ التعزير إنما يكون على معصية، ولا معصية تقع دون البلوغ، وإنما هو تأديب؛ كتأديب الزوجة الناشز، قال تعالى: ﴿ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾، [15] وكتأديب الصبي على الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مروا صبيانكم بالصلاة، إذا بلغوا سبعًا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرًا"، أخرجه أحمد،[16] والتأديب لم تُشرع فيه المعاقبة بالمال.[17].
ويجاب: أن المقصود من التعزير التأديب وتقويم المخالف، قال الزيلعي - رحمه الله - في تبيين الحقائق: "وهو تأديب دون الحد"،[18] وقال النووي- رحمه الله -: "ومنهم من يطلق التعزير على النوعين، [أي ضرب الإمام ونائبه، وتأديب المعلم والزوج ] وهو الأشهر"،[19] وقال في الشرح الكبير: " باب التعزير: وهو التأديب، وهو واجب في كل معصية لا حدّ فيها ولا كفارة"،[20] وعليه فأحكامهما سواء.[21].
وعلى ما تقرر اختياره، يجوز للمؤسسات الخيرية أن تعزر بعض الأيتام عقوبةً لهم باستقطاع بعض المال،[22] على أن يراعى ما يلي:
1- أن المؤسسة الخيرية إنما تتصرف بالأصلح للمتبرع بما يحقق كفالة اليتيم، فتسعى لتنمية جسده وخلقه، ولها أن تتصرف في الخصم من كفالته أو استبدال اليتيم بغيره ما دام الكافل لم يشترط خلاف ذلك، وما دامت تتحقق المصلحة، وبشرط ألا تفوت مصلحة أعظم.
2- لا يلزم إخبار المتبرع بهذا الاستقطاع، بل يُكتفى بالنظام العام للمؤسسة ولوائحها، وقد قال الله تعالى في حقوق الأيتام:﴿ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾ [23]
3- أن تستقطع هذه الأموال في الحالات التي يصعب علاجها بغير التعزير بالمال، وأن يغلب على الظن انتفاعه بذلك، ويحرم على المؤسسات وضع شروط مجحفة بالأيتام من شأنها أن تعجزهم، أو أن تكون خارجة عن معنى التربية الإسلامية الصحيحة، وداخلة في مسمى التربية على المفاهيم الضيقة.
4- وفي هذه الحالات التي تلجأ فيها المؤسسة الخيرية لتعزير اليتيم الأولى بها أن تحجز المبلغ المستقطع حتى يصلح حال اليتيم، ثم تعيده إليه، وقد نقل ابن عابدين -رحمه الله- عن صاحب البحر قوله: "وأفاد في البزازية: أن معنى التعزير بأخذ المال - على القول به - إمساك شيء من ماله عنده مدة لينـزجر، ثم يعيده الحاكم إليه، لا أن يأخذه الحاكم لنفسه أو لبيت المال، كما يتوهمه الظلمة، إذ لا يجوز لأحد من المسلمين أخذ مال أحدٍ بغير سبب شرعي، وفي المجتبى لم يذكر كيفية الأخذ، وأرى أن يأخذها فيمسكها، فإن أيس من توبته يصرفها إلى ما يرى"،[24]وهذا آكد في حق مال الأيتام لشدة حاجتهم إليه.
التخريج الفقهي للصورة الثالثة، وهي توفير المبالغ المستقطعة لشراء بعض الاحتياجات الخاصة باليتيم مستقبلاً، أو الاحتياجات العامة للأيتام؛ كشراء حافلة لهم، أو إنشاء مرفق تعليمي أو غيره:
العقد الذي بين المؤسسة الخيرية والكافل عقد وكالة، والأصل في الوكيل أن يتصرف بحسب ما وُكل فيه؛ فإن كانت الكفالة محددة ليتيم بعينه وجب صرفها له[25] لما يلي:
• أن تخصيص الشيء بالذكر يدل على قصد تعيينه، ونفي ما عداه.
• أن هذا التبرع المعين يقاس على النذر والوقف على جهة معينة، ويلزم اتباع شرط الناذر والواقف.[26]
ومن الكفالة المعينة: أن ينصَّ الكافل على كفالة يتيم بعينه، أو أن تُتابع المؤسسة الكافل بإرسال التقارير عن يتيمٍ معين، أو أن يتقدم بطلب كفالة يتيم إلى أن يبلغ.
لكن من الأمر المتسع جواز تأخير بعض الكفالة؛ لأنها من التأجيل لليتيم، ولعدم علمه بمصلحته، فتنظر المؤسسة إلى حاجة اليتيم الآنية، وإلى مصلحته في شراء ما قد يحتاجه بعد ذلك. [27].
وإن كانت الكفالة عامة لبند الأيتام، فلا حرج من صرفها على الأيتام ومصالحهم عمومًا؛ كشراء حافلة لهم، أو تأجير دار تضمّهم، ونحو ذلك. [28].
[*] مختص في فقه منتجات العمل الخيري.
[1] ينظر: استطلاع آراء المواطنين حول الإنفاق الخيري في دولة الكويت، ص(1766)، والتبرع بالمال للأغراض الخيرية، دراسة تطبيقية بالهيئات الإسلامية بمدينة الرياض، ص(144).
[2] ينظر: الموارد المالية لمؤسسات العمل الخيري المعاصر، دراسة فقهية تأصيلية، د. طالب الكثيري، ص(546-5522).
[3] ينظر: قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، في دورته العاشرة، المنعقد في 24-28 صفر 14088هـ، عن فقه النوازل، للجيزاني، (2/ 495).
[4] [ النساء: ٦ ].
[5] ينظر: عمدة القاري، للعيني، (10/ 49).
[6] المحلى، (7/ 201-202).
[7] مغني المحتاج، (3/ 100).
[8] وقد أفتى القاضي محمد بن إسماعيل العمراني بجواز أخذ هذه المخصصات الإدارية من كفالة الأيتام بشرط ألا تحدد بنسبة معينة؛ لأن بعض الأعمال بسيطة لا تكلف، وبعضها كبيرة وشاقة تحتاج إلى جهد ومال، بل تقدر على قدر الجهد والظرف والمكان، ويتحدد ذلك بعدل عن الأيتام وعدل عن الجهات المسوقة والمنفذة، يحددان النسبة اللازمة لإنجاح الأعمال وحسن ترتيبها على أن يعلم المتبرع بهذه النسبة، فربما أعطى مالاً إضافيًا، يغطي تلك النفقات الإدارية، فلا تحتاج المؤسسات الخيرية إلى نسبة أو غيرها، ينظر: الفتاوى المتصلة بكفالة الأيتام، ص(1)، نقلها تلميذه عبد الرقيب عباد، ورقة مقدمة إلى الندوة العلمية ضمن فعاليات المهرجان السابع لليتيم، الذي نظمته جمعية الإصلاح الاجتماعية الخيرية، صنعاء، 24 شوال 1430هـ.
[9] ينظر: روضة الطالبين، للنووي، (5/ 191).
[10] ينظر: رد المحتار، لابن عابدين، (6/ 103)، وأسنى المطـالب، للأنصـاري، (8/ 409)، والمغـني، لابن قدامة، (10/ 3422).
[11] ينظر: الإقناع في مسائل الإجماع، لابن القطان، (2/ 266).
[12] أخرجه أبو داود في كتاب (9) الزكاة، باب (5) في زكاة السائمة، ص(187)، برقم1575، والنسائي في كتاب (23) الزكاة، باب (4) عقـوبة مانع الزكـاة، ص(264)، برقـم2444، وأحمـد، (5/ 621)، برقم195، وصححه ابن عبد الهادي في المحرر، ص(210)، برقم567.
[13] في كتاب (37) اللباس والزينة، باب (4) النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر، ص(862-863)، برقم20777.
[14] الثوب المعصفر: المصبوغ بالعصفر، والعصفر نبات تصبغ به الثياب، ينظر: فتح الباري، (4/ 322)، ولسان العرب، لابن منظور، (4/ 581).
[15][النساء: ٣٤ ] .
[16] أخرجه أحمد، (2/ 376)، برقم6650، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وصححه أحمد شاكر، (10/ 1633).
[17] ينظر: البيان، للعمراني، (12/ 532).
[18] (3/ 207).
[19] روضة الطالبين، (10/ 175).
[20] مع المغني، (10/ 343)، وكشاف القناع، للبهوتي، (6/ 121).
[21] ينظر: بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله، للدريني، ص(86-89).
[22] وقد أفتى بهذا الشيخ عبد الله بن منيع عن مقابلة شخصية معه، وقال: لا يلزم علم المتبرع بهذا؛ لأن هذا الأمر داخل في تربيتهم، وتنظر: فتوى الشيخ أحمد بن حسن المعلم في جواز الخصم المالي من كفالات الدعاة الذين قصروا في عملهم، على أن تورد مبالغ الخصم إلى صندوق خاص بالدعاة، ضمن أسئلة عن كفالات الدعاة، لجمعية الحكمة اليمانية، إعداد اللجنة العلمية، بتاريخ 25/ 5/ 1426هـ.
[23] [البقرة: 220].
[24] رد المحتار، (6/ 106).
[25] ينظر: الأحكام المتصلة بكفالة اليتيم ومن في حكمه، لحسن الأهدل، ص(17)، ورقة مقدمة إلى الندوة السابقة.
[26] ينظر: الأموال التي يصح وقفها، للزحيلي، ص(9).
[27] ينظر: فتوى ابن جبرين، جريدة عكاظ، بتاريخ الخميس، 3/ 3/ 1428هـ، الموافق 22/ 3/ 2007م، العدد 2104.
[28] وقد أفتى بهذا الشيخ عبد الله بن منيع عن مقابلة شخصية معه.