فقه العمل الخيري » فقة منتجات العمل الخيري » حكم النسب الإدارية التي تقتطعها مؤسسات العمل الخيري من الصدقات

حكم النسب الإدارية التي تقتطعها مؤسسات العمل الخيري من الصدقات

حكم النسب الإدارية التي تقتطعها مؤسسات العمل الخيري من الصدقات

أولاً: صورة المسألة:

مصطلح النسب الإدارية يقصد به في العمل الخيري: استقطاع نسبة محددة كـ (10%، أو 12% أو 18%) من قيمة كل مشروع خيري تقوم به المؤسسات الخيرية مقابل تنفيذ المشروع،[1] تصرف على الآتي:

الصورة الأولى: تكاليف متعلقة بذات العمل؛ كتكاليف شراء التجهيزات،  وأجور العمال، ومنهم المراقبون الذين يقومون بالإشراف على المشاريع الإنشائية، وما يحتاجونه في ذلك من نفقات السفر، وأجرة التنقل، ونحو ذلك.

 

الصورة الثانية: التكاليف الإدارية للمؤسسة؛ من رواتب الموظفين،  والإيجارات، والتأثيث، ومصاريف التسويق الإعلاني لأنشطة المؤسسة.

وقد يتم خصم هذه التكاليف من قبل فروع المؤسسة الخيرية التي قامت بجمعها، ثم تخصم مرة أخرى من قبل الإدارة العامة للمؤسسة، والتي قد تكون هي المسؤولة عن تنفيذ العمل.

 

ثانيًا: محل الخلاف:

الأموال المتبرع بها على قسمين:

1- صدقات مطلقة غير معينة، وهذا النوع من الصدقات لا حرج على المؤسسة الخيرية أن تستقطع جزءًا منها، أو تستنفذها كلها في الأعمال الإدارية إن احتاجت لذلك، ورأت أنه أصلح للمتصدق.

2- صدقات معينة لمشاريع خيرية محددة، وهي موضع الخلاف.

والخلاف كذلك متجه إلى حكم أخذ الإيرادات الإدارية من الصدقات من جهة العمل، لا من جهة الاستحقاق؛ كوصف المسكنة أو الفقر أو نحوهما من الأوصاف التي نصّ عليها المتصدق.

 

ثالثًا: التخريج الفقهي لهذه النسب:

التخريج الفقهي للصورة الأولى وهي التكاليف المتعلقة بذات العمل:

هذه التكاليف ترتبط ارتباطًا أساسيًا بتنفيذ العمل وجودته، وهي بذلك تعد جزءًا من أجرة العمل؛ إذ الأعمال لا تقوم إلا بمن يتولى تنفيذها والإشراف عليها، وتغطية ما تحتاج إليه من نفقات التنفيذ، وعليه فهي داخلة في مقصود المتبرع.

 

التخريج الفقهي للصورة الثانية وهي التكاليف الإدارية للمؤسسة:

صورة المسألة صورة عقد إجارة، ولها حالتان:

الحالة الأولى: إذا أذن المتبرع بأخذ المؤسسة أجرةً لقاء عملها، وتنبني  هذه المسألة على حكم أخذ الأجرة على القربات؟.

وقد اتفق أهل العلم على جواز أخذ الرزق من بيت مال المسلمين على القربات عمومًا؛ لأن بيت المال جُعل لمصالح المسلمين العامة،[2] وأما  أخذ الأجرة من غير بيت المال في القربات غير المتعينة، والتي يتعدى نفعها للغير؛ فقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال، أرجحها -والله أعلم- القول بجواز أخذ الأجرة على القرب المتعدية عند الحاجة؛ جمعًا بين الأدلة، ويدل عليه قول تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [3] خصوصًا في مسألة  تفريق الزكاة؛ إذ تفريق الزكاة ونحوها عبادة معقولة، تحصل مصلحتها بإيصال الحقوق لأهلها، ولا تتأثر هذه المصلحة بـأخذ العوض عليها، بل قد تتم على وجهٍ أتم، وهكذا بناء المساجد وحفر الآبار.

الحالة الثانية: إذا لم يُستأذن المتبرع في أخذ هذه النسب، هل يصح  أخذها بغير إذن المتبرع الصريح أو علمه؟.

 

لأهل العلم المعاصرين في هذه المسألة قولان:

أولاً: أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وأدلتهم:

القول الأول: الجواز. [4]

واستدلوا بالأدلة التالية:

 أن هذه النسبة تدخل في مسمى الأجرة؛ إذ لا بدّ من إدارة وإشراف  عام على كل عمل، والوسائل لها أحكام المقاصد.

 أنه إذا جاز استقطاع نصيب من الزكاة للعاملين عليها؛ فلئن يجوز في الصدقات من باب أولى. [5]

 أن من يتبرع لجهة خيرية إنما يقصد دعم أعمالها، وتواصلها في  مساعيها، وهي لا تعطي إلا من تحتاج إليه في دعم أعمالها، أو القيام بها. [6]

 أن المتبرع لن يخلو من الأجر؛ إذ القصد العام للمتبرعين هو دعم أبواب  الخير، وطلب الثواب من الله، ودعم المؤسسات الخيرية بابٌ من أبواب الخير العظيمة.

 أن أخذ هذه النسب من باب العمل بالعرف العام للجمعيات الخيرية،  والمعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.

 

القول الثاني: المنع. [7]

واستدلوا بالأدلة التالية:

 أن هذه التكاليف وسائل وليست مقاصد، والذين يعطون التبرعات لا يريدون أن تبذل تبرعاتهم في وسائل الصدقات، وإنما يريدون أن تصل تبرعاتهم إلى نفس المحتاجين. [8].

 

 أن أخذ العاملين على الزكاة منها إنما هو مقابل عملهم المتعلق بذات الزكاة، ولا يأخذ الوالي أو القاضي منها شيئًا لقاء إشرافه العام، قال المرداوي -رحمه الله-: "الوكيل في الصدقة لا يأكل منها شيئًا لأجل العمل، نصّ عليه، وقد صرح القاضي في المجرد بأن من أوصى إليه بتفرقة مال على المساكين، أو دفع إليه رجل في حياته مالاً ليفرقه صدقة، لم يجز له أن يأكل منه شيئًا بحق قيامه؛ لأنه منفعة، وليس بعاملٍ منمٍ مثمّر"،[9] ولا يجوز - على الصحيح - أخذ المؤسسات الخيرية غير الحكومية من الزكاة بمسمى العمالة. [10].

 

 أن الإنسان لا يرضى هذا الأمر لنفسه - أن يُنفق من صدقته بغير علمه  وبغير ما أراد- فكيف يرضاه لغيره ؟.

 أن المتبرع قد يتولى العمل بنفسه، أو عن طريق من يوكله إذا علم أن  المؤسسة تأخذ نسبة لصالحها.

 أن العرف في ذلك غير لازم؛ لعدم علم المتبرع به.

 

ثانيًا: القول المختار:

الفصل في هذه المسألة يتعلق بمدى تعارف المؤسسات الخيرية على أخذ هذه النسبة، ومدى إطلاع المتبرعين على ذلك؛ لذا لا بدّ من ملاحظة ما يلي:

1- أن يُسعى لتغطية المصاريف الإدارية من غير الأموال المتبرع بها ما أمكن؛ كإيجاد وقف لصالح نفقات المؤسسة، أو تبرعات خاصة تجمع لهذا الغرض.

2- يجب الاقتصاد في المصاريف الإدارية، والاقتصار على الضروري منها فقط.

3- إذا وجد المتبرع بتنفيذ العمل فهو المقدم على غيره؛ حفاظًا على حقوق المستحقين.

4- لابدّ أن يُقدر القائمون على أمر الجمعيات؛ كأعضاء مجالس الإدارة قدر هذه النسب التي يأخذها العاملون، ولا يترك الأمر للعاملين أنفسهم؛ حتى تراعى الضوابط الشرعية في صرف هذه الأموال.

 

وهل يلزم علم كل متبرع بذلك أو يُكتفى بالعلم العام؟ [11]

نازعت المسألة قاعدتان؛ قاعدة: تحكيم العرف،[12] وقاعدة: النطق أقوى من العرف،[13] وإذا كانت المؤسسات الخيرية قد تعارفت على أخذ هذه  النسب، فقد شهرت نفسها باسم المؤسسات الخيرية التطوعية، وهذا الأخير مقدم في الحكم عليها، ما لم تُشهر أن مرادها بهذه اللفظة خلاف ما يظهر منها لعامة الناس.

 

فإن قيل: أليس المتعامل مع السماسرة والبنائين وغيرهم من الأجراء يُلزم بعرفهم في أداء حقوقهم، وإلزامهم بواجباتهم ؟.

قيل: هذا صحيح، لكن المؤسسات الخيرية افترقت عن أصحاب أيّ مهنة أخرى جرى العرف بحقوقهم وواجباتهم؛ لأن أولئك لم يعارض مسماهم ما تعارفوا عليه من أخذ أجرة المثل، بخلاف المؤسسات الخيرية، فالذي يظهر التأكيد على إطلاع المتبرع بما يستقطع من تبرعه، ولذلك وسائل، منها:

1- أن تكتب لوحة على مدخل المؤسسة تبين ما تأخذه من نسبة، شريطة أن يطلع عليها المتبرع.

2- أو أن ينبه على ذلك في العقد الذي يكتب بينه وبين المؤسسة.

3- أو أن يكون قد بُـيّن ذلك في النشرات التعريفية للمؤسسة التي وصلت للمتبرع.

4- أو أن يخبر شفهيًا باستقطاع هذه النسب، أو نحو ذلك من أيّ وسيلة تضمن الاطمئنان على علم المتبرع بهذا الاستقطاع.

5- أو أن تعمد المؤسسة الخيرية إلى جمع تبرعات بمسمى الأعمال المؤسسية الإدارية، أو ضمن الدعوة للتبرع بمبلغ معين، تصرف نسبة منه لصالح هذه الأعمال؛ كما هو حال بعض المؤسسات الخيرية.

6- وقد أجاز بعض أهل العلم[14] إذا خرج العمل الخيري -كدورة شرعية  مثلاً- بمواصفات محددة ومبلغ معين أن تأخذ الجهة الخيرية المبالغ الفائضة بعد تنفيذها للعمل المحدد بنفس المواصفات، ودون اشتراط إذن المتبرع، ويلزمها في المقابل تغطية العجز إن حدث؛ كالمتعهد أو المقاول الذي يلتزم أداء عملٍ ما بتكلفة معينة. [15]



[*] مختص في فقه منتجات العمل الخيري.

[1] ينظر: تنمية الموارد البشرية والمالية، للعلي، ص(202).

[2] ينظر: شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (3/ 94).

[3] [النساء: ٦].

[4] وممن ذهب إليه مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، برابطة العالم الإسلامي، في دورته العاشرة المنعقدة في مكة المكرمة، صفر 14088هـ، ص(225)، والهيئة الشرعية للندوة العالمية للشباب الإسلامي، محضر الاجتماع الثاني بتاريخ4/ 11/ 1421هـ، ص(6)، والشيخ عبد الله بن جبرين، ينظر: 100 سؤال وجواب في العمل الخيري، ص(46)، ود. يوسف القرضاوي، ينظر: آراء الشيخ يوسف القرضاوي في القضايا الفقهية المتعلقة بكفالة الأيتام، ص(3)، ورقة مقدمة إلى الندوة العلمية ضمن فعاليات المهرجان السابع لليتيم، الذي نظمته جمعية الإصلاح الاجتماعية الخيرية، صنعاء، 24 شوال 1430هـ، ود. سعود الفنيسان ينظر: فتاوى واستشارات موقع الإسلام اليوم، تصنيف: كتاب الزكـاة، أصنـاف الزكـاة الثـمانية، بتـاريخ 4/ 7/ 1423هـ، وأبو عليو ينظر: حكم استقطاع جزء (نسبة معينة) من الإيرادات، ود.عبد الله الفقيه، ينظر: فتاوى موقع الشبكة الإسلامية، رقم الفتوى 41561، بعنوان: لا حرج في أخذ راتب من دار رعاية الأيتام، بتاريخ23 شوال 1424هـ.

[5] ينظر: أبحاث المجمع الفقهي الإسلامي في دورته العاشرة، ص(225)، وآراء الشيخ يوسف القرضاوي، ص(33).

[6] ينظر: فتاوى واستشارات موقع الإسلام اليوم، المجيب: هانـي بن عبد الله الجبير، تصنيف: المعاملات، الإجارة والجعالة، بتاريخ 1/ 6/ 14244هـ.

[7] وممن ذهـب إليه الشـيخ محمد بن عثـيمين ينظر: مجموع فتـاويه ورسـائله، (18/ 474- 475)، ولقاءات الباب المفتوح، (166/ 100)، فرغت في موقع الشبكة الإسلامية، ود. أبو فارس ينظر: فتاوى شرعية، (1/ 390)، ود. عبد الكريم زيدان عن مكالمة هاتفية معه، والشيخ عبد العزيز آل الشيخ والشيخ عبد الله الغديان والشيخ عبد الله بن منيع والشيخ علي بن سالم بكير عن مقابلة شخصية معهم.

[8] ينظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين ورسائله، (18/ 474).

[9] الإنصاف، (5/ 341).

[10] ينظر: الموارد المالية لمؤسسات العمل الخيري المعاصر، د. طالب الكثيري، (203-2344).

[11] ينظر: الإشكاليات الفقهية العشر أمام منتجات العمل الخيري والعمل المصرفي، د. طالب الكثيري، ص(21-277).

[12] ينظر: الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص(122)، ورد المحتار، لابن عابدين،(9/ 800).

[13] ينظر: المغني، لابن قدامة، (5/ 258)، وقواعد الأحكام، للعز، (2/ 325)، وشرح القواعد الفقهية، للزرقا، ص(1411).

[14] تنظر: فتوى الشيخ أحمد بن حسن المعلم، ضمن أجوبة أسئلة  اللجنة العلمية لتوضيح بعض الإشكاليات على الدورات الشرعية، إعداد اللجنة العلمية بجمعية الحكمة اليمانية، بتاريخ 12/ 4/ 1426هـ.

[15] وقد اقترح بعضهم أن تسعى المؤسسة الخيرية إلى الحصول على  خصوماتٍ من بعض المقاولين أو بائعي مواد البناء ونحوها، ولحكم هذه المسألة ينظر: الموارد المالية لمؤسسات العمل الخيري المعاصر، لطالب الكثيري، ص(315-334).



حقوق النشر محفوظة لدى موقع الشيخ طالب بن عمر الكثيري (©)