وقف النقد للإقراض أو الاستثمار
وقف النقد للإقراض أو الاستثمار
تأثر فقه الوقف كغيره بالتطورات الحادثة في المجتمعات، وبالإفرازات المتلاحقة لصور الحوائج المتزايدة، فعاش مع الناس بين تطور الاحتياجات، واحتياجات التطور، مما دعا المؤسسات الخيرية إلى صور معاصرة لتغطية هذه الاحتياجات، فظهرت الصورة محل الدراسة: وهي الحاجة إلى وقف النقد لتوفير القرض الاستهلاكي أو الاستثماري. [1].
أولاً: صورة المسألة:
تتجلى المسألة في رصد صندوق مالي تُوقف فيه النقود، وتُسخر لسدّ حاجات الفقراء والمعوزين، لا على وجه الصدقة أو الهبة، بل على صورة الوقف الذي يستمر دون انقطاع، وتتكيف طريقة وقف النقود في ثلاث صور: [2]
الأولى: وقفها للإقراض؛ بأن تُقرض هذه النقود للمحتاجين على أن يردوا بدلها، ثم تقرض لغيرهم، ويؤمن السداد برهن أو كفالة أو استقطاع من الراتب أو غيرها من الضمانات التي تستخدمها شركات التقسيط.
وفي هذه الصورة فتحٌ لباب القرض الحسن، وسدٌ لحاجات المقترضين من المعسرين أو راغبي الزواج، بدلاً من لجوئهم لشركات التقسيط أو عمليات التورق أو القروض الربوية، وقد نبّه على هذه الصورة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - قال: " ولو قال الواقف: وقفتُ هذه الدراهم على قرض المحتاجين لم يكن جواز هذا بعيدًا".[3]
الثانية: وقف النقود للمضاربة بها؛ بأن تدفع قراضًا لمن يتجر بها أو توضع في محافظ استثمارية على أن تكون أرباحها وقفًا لله تعالى يصرف في الأعمال الخيرية، وقد وردت هذه الصورة في أثر نقله البخاري في صحيحه[4] عن الزهري قال فيمن جعل ألف دينار في سبيل الله، ودفعها إلى غلامٍ له تاجر يتجر بها، وجعل ربحه صدقة للمساكين والأقربين، هل للرجل أن يأكل من ربح تلك الألف شيئًا، وإن لم يكن جعل ربحها صدقة في المساكين؟ قال: ليس له أن يأكل منها.
الثالثة: الإبضاع: بأن تدفع النقود للمتاجرة بها على أن يتبرع بالربح كله للمضارب، وقد أشار الحنفية لهذه الصورة، جاء في فتح القدير: "يدفع الدراهم مضاربة، ثم يتصدق بها في الوجه الذي وقف عليه، وما يكال وما يوزن يباع، ويدفع ثمنه مضاربة أو بضاعة".[5]
ومن الصور التي ذكرها بعضهم: أن يوقف النقد، ويشترى به عقار ثم يؤجر، وينفق ريعه في سبل الخير، وظاهر في هذه الصورة أن النقد هو الذي وقع عليه الوقف لا العقار. [6]
وقد عدّ أحد الباحثين[7] صورة أخرى وهي وقف الإيراد النقدي دون وقف أصله، فيوقف إيراد يوم أو شهر أو نسبة من الإجمالي، فإن أوقف أصل الإيراد؛ وهو عمله في يومٍ أو شهرٍ معين فالذي يظهر أنها صورة من صور الوقف المؤقت لبعض المنافع، وليست من وقف النقد، والله أعلم.
ثانيًا: سبب الخلاف:
إضافة إلى خلاف العلماء السابقين في حكم وقف الأموال المنقولة، فإن سبب الخلاف في هذه المسألة أمران، والله أعلم:
الأول: هل يقوم البديل مقام الأصيل في حال وقف النقود؟ فمن رأى قيامه قال بجواز الوقف؛ لبقاء العين ببقاء بدلها، ومن لم ير ذلك قال بعدم الجواز.
الثاني: هل ركن الوقف بقاء العين أم بقاء النفع؟.
ثالثًا: القول المختار:
القول بالجواز هو أقرب القولين للصواب؛ للاعتبارات التالية: [8]
• أن وصف الوقف بكونه صدقةً جاريةً يدل على أن مقصوده دوام الانتفاع به، وإن لم تدم عينه؛ بدليل أن ما تعطلت منفعته تمامًا من الموقوفات جاز إبداله بغيره، ويقوم البدل مقام المبدل منه.
• أن مقصود الأموال الانتفاع بها على جهة الانتفاع بذاتها أو بعوضها، وهذا حاصل في وقف النقد، " فالنقود باعتبار بقاء قيمتها في أمثالها أموالٌ ثابتة من هذا الوجه" [9].
• أن الواقف اتجه إلى وقف القيمة النقدية في الأثمان لا إلى ذواتها؛ فذواتها غير مقصودة بدليل أنها لا تتعين بالتعيين،[10] وإنما المقصود قيمتها، وهذه القيمة هي التي جرى عليها حكم الوقف، وبقاؤها موجود في حال قرضها أو المضاربة بها، بل ولا يحل بعد وقف النقد أيّ تصرف يؤدي إلى إعدام القيمة النقدية الموقوفة.
• أن هذا القول فيه توسعة على الناس، ورفق بهم،[11] وباب التبرعات في أحكامه أوسع من باب المعاوضات، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره؛[12] لقصد الشريعة إلى تسهيل طرق الإحسان، وسدّ أبواب الربا، قال القرافي -رحمه الله- في خصوص باب الوقف: " وهو من أحسن أبواب القرب؛ لما تقدم من الأحاديث، وينبغي أن يخفف شروطه" [13].
وأقول ختامًا: إن الكلام في وقف الدنانير والدراهم هو ذات الكلام في وقف النقد من أيّ مادة كان؛ لأن نظر الفقهاء للدنانير والدراهم في هذه المسألة اتجه إلى كونهما أثمانًا؛ بدليل أن الخلاف في هذه المسألة استقل عن الخلاف في مسألة وقف الذهب والفضة للتحلي، قال ابن قدامة -رحمه الله-: "والمراد بالذهب والفضة هاهنا الدراهم والدنانير، وما ليس بحلي؛ لأن ذلك هو الذي يتلف بالانتفاع به، أما الحلي؛ فيصح وقفه للبس والعارية".[14].
• ومع اختيار القول بجواز وقف النقود، فمن المهم التأكيد على الأمور التالية:
1- في حالة إقراض النقد ينبغي توثيقه بالرهن أو الكفيل؛ لضمان سداده، ووقاية المال من خطر المماطلة أو العجز عن السداد؛ مما يؤدي إلى تناقصه وتلاشيه، ففي حاشية الدسوقي: [15]" كان في قيسارية فاس ألف أوقية من الذهب موقوفة للسلف، فكانوا يردونها نحاسًا؛ فاضمحلت".
2- من المستحسن استثمار المال الموقوف، وإقراض المحتاجين من ريعه، وفي ذلك ضمانٌ لتعويض النقص الذي قد يدخل نتيجة مماطلة بعض المقترضين أو عجزهم.
3- حسن اختيار المضارب ومجالات المضاربة الناجحة، مما يحقق حصول الأرباح غالبًا، مع حجز احتياطي من الربح يغطي الخسارة التي قد تنتج أحيانًا [16].
4- قيام ناظر الوقف بما يقوم به رب المال من المحاسبة والمراقبة لمال الوقف؛ لأنه ممثل للشخص الاعتباري (الوقف)، ولتبقى الأموال الموقوفة فيما وضعت له [17].
5- وقد طرح بعض المعاصرين[18] فكرة أن يكون هذا الوقف مؤقتًا؛ كأن يوقف عشرة ملايين ريال لمدة عشرين سنة مثلاً، وهذه المسألة مما اختلف فيه أهل العلم على قولين، أرجحهما أنه لا يتصور وجود الوقف المؤقت؛ لأن حقيقة الوقف الانتفاع بالعين الموقوفة مدة بقائها، وخروجها عن ملك الواقف، لكن يصحح العقد - إن وجد - على أنه تبرعٌ بالمنافع (عارية) لمدةٍ معينة.
6- وهل تجب زكاة هذه الأموال؟ اختلف أهل العلم في حكم زكاة المال الموقوف وقفًا خيريًا على قولين، أصحهما أن الوقف الخيري لا تجب زكاته،[19] للاعتبارات التالية:
• عدم توفر شروط وجوب الزكاة في المال الموقوف؛ كوجود المالك المعين الذي يملك المال ملكًا تامًا.
• تحقق مقاصد الزكاة في المال الموقوف على الدوام؛ باعتباره صدقة جارية، يحصل بها تطهير المال، وكفاية المستحقين.
• قياس سقوط الزكاة عن الوقف الخيري على سقوطها عن الأموال المخُرجة زكاةً إذا تكاثرت وحال عليها الحول، والله أعلم.
[*] مختص في فقه منتجات العمل الخيري.
[1] ينظر للاستزادة الإشكالية الخامسة: الصيغ الربحية للعمل الخيري، ضمن الإشكاليات الفقهية العشر أمام منتجات العمل الخيري والعمل المصرفي، د. طالب الكثيري، ص(39-43).
[2] ينظر: أحكام الأوقاف، لمصطفى أحمد الزرقا، ص(61)، والوقف وأثره في تنمية موارد الجامعات، لأبا الخيل، ص(212-2155)، وراجع لتاريخ هذه الصور: بحث وقف النقود في الدولة العثمانية، مجلة الاجتهاد، العدد (43)، والدور الاقتصادي للوقف في التصور الإسلامي، لمنذر قحف، ص(431)، ودور الوقف في المجتمعات الإسلامية، لمحمد الأرناؤوط، فصل تطور وقف النقود، ص(16-19)، وأفكار جديدة في العمل الخيري مع مستندها الشرعي، لليحيى، ص(10-13).
[3] الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، للبعلي، ص(2488).
[4] في كتاب (55) الوصايا، باب (31) وقف الدواب والكراع والعروض والصامت، ص(5633).
[5] (6/ 203)، وينظر: رد المحتار، لابن عابدين، (6/ 556).
[6] ينظر: وقف النقود واستثمارها، لمحمد الملا، ص(1/ 57)، وقد ذكر د. أحمـد الحداد أن مؤسسة الشيخ زايد للأعمال الخيرية جُعل رأس مالها مليار دولار أمريكي وقفًا عامًا، ومن شرطه ألا يتصرف إلا بريع هذا المال دون أن يمس الأصل، ويحجز من الريع 20% تضم لرأس المال، و10% للاحتياط العام، ويصرف 70% في وجوه الصرف المحددة، بحث وقف النقود واستثمارها، (1/ 115).
[7] ينظر: منذر قحف في الوقف الإسلامي تطوره، إدارته، تنميته، ص(196-1977).
[8] ينظر: الموارد المالية لمؤسسات العمل الخيري المعاصر، د. طالب الكثيري، (411-4277).
[9] استثمار الأوقاف في الفقه الإسلامي، لمحمود أبو ليل، ومحمد سلطان العلماء، (2/ 73)، مجلة المجمع، العدد133.
[10] ينظر: رد المحتار، لابن عابدين، (6/ 555).
[11] ينظر: قرارات وتوصيات ندوات البركة للاقتصاد الإسلامي، ص(310).
[12] ينظر: روضة الطالبين، للنووي، (5/ 316)، وإعلام الموقعين، لابن القيم، (2/ 399).
[13] الذخيرة، (6/ 322).
[14] المغني، (6/ 262).
[15] (5/ 457)، وينظر: الوقف في الفكر الإسلامي، لمحمد بن عبد العزيز، (1/ 1355).
[16] ينظر: رسالة في جواز وقف النقود، لأبي السعود الحنفي، والوقف وأثره في تنمية موارد الجامعات، لأبا الخيل، ص(2144)، وينظر: صندوق القرض الحسن: تنظيماته- آلياته- ضوابطه، سامر قنطقجي، وإبراهيم عثمان آغا.
[17] ينظر: الأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية، لعبد الستار أبو غدة، ص(3177).
[18] ينظر: د. يوسف القرضاوي في مقاله خصائص العمل الخيري في الإسلام، منشور في موقع القرضاوي على شبكة الانترنت، ومنصور في الوقف ودوره في المجتمع الإسلامي المعاصر، ص(226).
[19] ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني، (2/ 9)، وأسنى المطالب، لزكريا الأنصاري، (2/ 441)، والمغني، لابن قدامة، (6/ 2600)، وقال به بعض المالكية، ينظر: المعيار المعرب، للونشيريسي، (1/ 396).