توحيد الأوقاف المتعددة في وقفٍ واحد ذي ريعٍ أكبر
توحيد الأوقاف المتعددة في وقفٍ واحد ذي ريعٍ أكبر
أولاً: صورة المسألة:
صورة هذه المسألة: أن تباع الأوقاف ضئيلة الريع، ويشترى بقيمتها وقف جديد ذو غلةٍ عالية، يصرف ريعه في مصارف الأوقاف المباعة بنسبةٍ تحدد بحسب قيمة كل وقفٍ منها.
وتتحدد هذه المسألة في الوقف الخيري خصوصًا - دون الوقف الذري-، وتتقيد بوجود المصلحة في ضمّ الأوقاف بعضها لبعض، من جهة حصول الريع الأوفر الذي يحقق مصلحة أعظم.
ثانيًا: تخريج هذه المسألة:
ينبني حكم هذه المسألة على مسألة: حكم استبدال الوقف بغيره، ويندرج تحت مناقشتنا لهذه المسألة مناقشة حكم نقل الوقف إلى محلة أخرى، وحكم تغيير شرط الواقف، ومن خلال هذه المسائل الثلاث يظهر حكم الصورة السابقة، والمسائل الثلاث تتعلق ببعضها اختلافًا وأدلةً.
ثالثًا: سبب الخلاف:
وسبب الخلاف في هذه المسألة – والله أعلم – هل المعتمد في الوقف التوقف عند شروط الواقفين أو تغليب المصالح لهم وللموقوف عليهم ؟ وهل الوقف يشترط له حبس عين الموقوف أو يكفي حبس ماليته، وإن استبدلت عينه ؟.
رابعًا: القول المختـار:
المسألة بين الأدلة الصحيحة غير الصريحة، والأدلة الصريحة غير الصحيحة، والذي صح سنده، وقربت دلالته ما يلي:
• الأمر بإبدال الصلاة المنذورة بما هو خير منها.
• الإذن بإبدال الزكاة الواجبة بما هو خير منها.
• عدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من باع ما تُصدق به عليه، في حديث عمر رضي الله عنه [1]: "حمـلت على فرسٍ في سبيل الله، فابتاعه أو فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه".
• تجديد الصحابة رضي الله عنهم لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عين موقوفة.
• أمر عائشة رضي الله عنها ببيع ثياب الكعبة، وهي عين موقوفة.
• بيع حسان رضي الله عنه نصيبه من الصدقة بما هو خيرٌ له.
• وإذا أضفنا اعتبار أن المقصود من وقف العين وقف ماليتها لا عينها، وأن المال هو ما ينتفع بعينه أو بعوضه،[2] كان في هذه المعالم ملامح في جواز جمع الأوقاف واستبدالها بما هو خيرٌ منها، لكن مع ضميمة نظرين:
النظر الأول: اعتبار مقصد بقاء الوقف صدقة جارية لصاحبه، يتقرب بها إلى الله - وهذا يرتبط بالمصلحة - ومقصد النفع الخاص الذي أراده الواقف - وهذا يرتبط بما نصّ عليه -.
النظر الثاني: اعتبار اتحاد الجهات الموقوف عليها وافتراقها، واعتبار مدى كفاية غلة الوقف للجهة الموقوف عليها، وبهذين النظرين تنقسم المسألة إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يتحد الواقف والجهة الموقوف عليها، مع تعدد المال الموقوف، ومثاله: أن يوقف محمد أرضًا وعمارةً على مسجد معين، فلا حرج في هذه الحال من جمع الوقفين في وقف واحد؛ حيث إن جمعها لا يُغير شيئًا من شرط الواقف، ويحقق مصلحة الوقف.
جاء في حاشية ابن عابدين[3]: "ولو كانت له أرضون ودور بينه وبين آخر، فوقف نصيبه، ثم أراد أن يقاسم شريكه، ويجمع الوقف كله في أرضٍ واحدة، ودارٍ واحدة؛ فإنه جائز في قول أبي يوسف".
الثاني: أن يتعدد الواقفون والمال الموقوف، وتتحد الجهة الموقوف عليها، ومثاله: أن يوقف زيد بيتًا ويوقف عمرو دكانًا على مدرسة معينة، فلا حرج أيضًا من جمع الوقفين في وقفٍ واحد؛ لتحقيق مقصد الواقفين ومصلحة الوقف.
جاء في حاشية ابن عابدين[4]: " مسجد له أوقاف مختلفة لا بأس للقيم أن يخلط غلتها كلها، وإن خرب حانوت منها فلا بأس بعمارته من غلة حانوت آخر؛ لأن الكل للمسجد، ولو كان مختلفًا؛ لأن المعنى يجمعهما".
وقال المرداوي - رحمه الله - [5]: "وقد أفتى الشيخ عبادة - من أئمة أصحابنا - بجواز عمارة وقف من وقف آخر على جهته، ذكره ابن رجب في طبقاته في ترجمته، قلت: وهو قوي، بل عمل الناس عليه".
الثالث: أن يتعدد الواقفون والمال الموقوف، وتختلف الجهات الموقوفة عليها، ومثاله: أن يوقف سعد عقارًا على مسجد الحي، ويوقف سعيد مزرعةً على مدرسة الحي، ففي هذا القسم تفصيل:
أ- إن كان كل من الوقفين له ريع معتبر في كفاية الجهة المستحقة، وللواقف في تعيين العين الموقوفة غرض مقصود، يمنع نقله أو استبدال عينه، لم يجز جمعهما مراعاةً لإرادة الواقف، وتحقيقًا للمقصدين.
ب- وإن كان كلا الوقفين قد خرب وأهمل، أو ضعفت غلتهما عن تحقيق كفاية الجهة الموقوف عليها، ولم يظهر مقصد خاص للواقف في قصد العين الموقوفة بذاتها، جاز جمع الأوقاف المتعددة في وقفٍ واحد ما دام أن الوقفين من الأوقاف الخيرية، وقد جاء في بعض كتب النوازل في الفقه المالكي: [6] "الأحباس كلها إذا كانت لله انتفع بعضها ببعض"، وفيه أيضًا عن بعض المالكية: "ما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه على بعض"،[7]وفي المعيار المعرب في جمع أحباس فاس[8] الفتوى "بجواز جمعها، وجعلها نقطة واحدة، وشيئًا واحدًا؛ لا تعدد فيه، وأن تجمع مستفادات ذلك كله، ويقام منه ضروري كل مسجد من تلك المستفادات المجتمعة".[9].
ومع القول بجواز استبدال الأوقاف وضمها في وقفٍ واحد -على ما سبق تفصيله- إلا أنه لا بد من مراعاة الضوابط التالية:
1- ألا يباع الوقف بغبنٍ فاحش، أو لمن لا تقبل شهادته له؛ خوف المحاباة في الثمن.[10].
2- أن يُعجل في شراء عقار بدلاً منه؛ حتى لا تضيع الأموال،[11] وأن يسجل العقار الجديد في دائرة الأوقاف حتى لا يكون ضياعه سببًا في ضياع أصوله.[12].
3- أن يصرف من ريع الوقف الجديد على مصارف الأوقاف المباعة بنسبة قيمتها إلى ريعه.
4- أن يكون هذا الإبدال بنظر القاضي والنظار معًا؛ رعايةً لتحقيق المقصد العام، والمقاصد الخاصة للواقفين،[13] قال ابن قدامة - رحمه الله -: " قال أحمد في رواية أبي داود في مسجدٍ أراد أهله رفعه من الأرض، ويجعل تحته سقاية وحوانيت، فامتنع بعضهم من ذلك: فينظر إلى قول أكثرهم". [14].
5- الوضوح في أسباب استبدال الأوقاف وتوحيدها؛ ببيان حكم هذا الأمر لعموم الناس، وبيان وجه الضرورة أو المصلحة التي دعت لذلك مدعمة بأقوال أهل العلم وفتاواهم؛ لتكسب المؤسسة الخيرية ثقة الناس، وتندفع عنها الشائعات.[15]
[*] مختص في فقه منتجات العمل الخيري.
[1] أخرجه البخاري في كتاب (24)، باب (59) هل يشتري صدقته؟ ولا بأس أن يشتري صدقة غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى المتصدق خاصة عن الشراء ولم ينه غيره، ص(297)، برقم 1490، ومسلم في كتاب (24) الهبات، باب (1) كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه، ص(661)، برقم1620.
[2] ينظر: الموارد المالية لمؤسسات العمل الخيري المعاصر، د. طالب الكثيري، (63-70).
[3] (6/ 542).
[4] (6/ 551).
[5] الإنصاف، (7/ 105).
[6] كتاب النوازل، لعيسى الحسني، (2/ 313-314).
[7] المرجع السابق، (2/ 345).
[8] هي مدينة مشهورة كبيرة على بر المغرب، بين ثنـيتي جبل ومطلة على البحر، لذا عدت من أجمل المدن، تتخللها ثمانية أنهار، تدخل كل دار منها ساقية، وهي عدوتان: عدوة الأندلسيين، وعدوة القرويين، ينظر: معجم البلدان، للحموي، (4/ 261-262).
[9] (7/ 331-332).
[10] ينظر: الفتاوى الهندية، لنظام الدين، (2/ 401)، ورد المحتار، لابن عابدين، (6/ 586)، وأحكام الوقف في الشريعة الإسلامية، لمحمد الكبيسي، (2/ 27-28)، وقرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي بالهند، الندوة 12، ص(179).
[11] ينظر: رد المحتار، لابن عابدين، (6/ 586)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (5/ 480)، واستثمار الوقف، للصقيه، ص(3588).
[12] ينظر: الفتاوى الهندية، لنظام الدين، (2/ 401)، ورد المحتار، لابن عابدين، (6/ 586)، وأحكام الوقف في الشريعة الإسلامية، للكبيسي، (2/ 27-28).
[13] ينظر: الفتاوى الهندية، لنظام الدين، (2/ 401)، ومغني المحتاج، للشربيني، (2/ 530)، والإنصاف، للمرداوي، (7/ 105)، وجمع الأوقاف وتفريقها، لمحمد المقرن، ص(47).
[14] المغني، (6/ 254).
[15] ينظر: توحيد الأوقاف المتنوعة في وقف واحد، لنوري، ص(223).