استثمار الأموال المرصدة لكفالات الأيتام
استثمار الأموال المرصدة لكفالات الأيتام
ترد إلى حساب المؤسسات الخيرية مبالغ كفالات الأيتام على هيئة استقطاعات شهرية تارة، وعلى هيئة دفعات لستة أشهر أو لسنة تارات أخرى، وبالرغم من قلة مبلغ الكفالة، لكنها مع كثرتها - إذ تصل في بعض المؤسسات الخيرية إلى آلاف الكفالات - وبقائها في خزينة المؤسسات الخيرية لفترات طويلة، يتردد السؤال عن حكم استثمار هذه الأموال؟.
ويتفرع على هذا السؤال ثلاثة تساؤلات في ثلاثة فروع:[2]
الفرع الأول: هل تعتبر هذه الكفالات قبل صرفها ملكًا للمؤسسة الخيرية أم للأيتام؟.
والإجابة عن هذا السؤال تظهر في نية الكافل الذي رصد هذه الكفالة لصالح اليتيم، وجعل المؤسسة الخيرية وكيلة له في صرف هذا المال، فلما اتجهت نية الكافل إلى تمليك المال لليتيم عن طريق المؤسسة الخيرية، كان المال مالاً لليتيم، وينبغي في هذا الموطن التفريق بين حالين:
الحال الأول: أن تكون الكفالة مخصوصة بيتيم معين، قصد المتبرع إلى كفالته، ففي هذه الحالة يكون ربح الاستثمار لصالح هذا اليتيم المعين.
والحال الثاني: أن تكون الكفالة مرادة ليتيم غير معين، فيكون ربح استثمارها لصالح عموم الأيتام، ومصالحهم العامة. [3]
الفرع الثاني: هل يجب على المؤسسة الخيرية استثمار أموال الأيتام المكفولين عندها؟.
ينبني هذا الفرع على مناقشة حكم استثمار مال اليتيم، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال، أصحها جواز استثمار مال اليتيم، وهو قول الجمهور، من الحنفية،[4] والمالكية،[5] وبعض الشافعية،[6]ومذهب الحنابلة؛[7] لقوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾ [8]
ووجه الدلالة: أن ظاهر اللفظ يدل على أن استثمار مال اليتيم، وتصرف القائم فيه بالأصلح من التجارات من الخير المندوب إليه.[9]
ومما يدل على ذلك أيضًا أن كثيرًا من الصحابة رضي الله عنهم؛ كعمر وعائشة رضي الله عنهما قد اتجروا في أموال الأيتام عندهم،[10] قال الماوردي - رحمه الله -: " وليس لهذين في الصحابة مخالف؛ فكان إجماعًا". [11]
وتراعى هنا الضوابط التالية:
1- يجب ألا يؤثر استثمار مال اليتيم في كفاية حاجاته الأساسية؛ ومع قلة مبلغ الكفالة يتأكد صرف كل مبلغ في حينه، وعدم تأخيره، وإنما تستثمر الأموال التي يتأخر صرفها.
2- ويجب أن تستثمر أموال اليتامى في استثمارات آمنة قدر الإمكان؛ صيانةً لها من الضياع، وحذرًا من أكل أموال الأيتام، وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [12] وإذا ما اتخذت الاحتياطات اللازمة، وكان المستثمر خبيرًا بأمور التجارة، فما حدث بعد ذلك من خسارة لم تضمنها المؤسسة؛ لأنها وكيلة، والوكيل لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط. [13]
3- ينبغي استثمار أموال اليتامى في مجالات يسهل تنضيضها[14] عند الحاجة لصرف الكفالة.
4- لا يجوز أن يُقرض المحتاجون من أموال اليتامى؛ لأن هذا الصنيع ليس فيه تنمية لأموالهم، ولأنه يعرضها للخطر، وأما المداينة التي ليس فيها ربا، وفيها تنمية لأموال اليتامى دون خطر، فلا بأس بها؛ كدين السلم والبيوع المؤجلة بزيادة. [15]
الفرع الثالث: هل يحل للمؤسسة الخيرية أن تأخذ أجرًا مقابل متاجرتها في أموال الأيتام؟
إذا أنزلنا المؤسسة الخيرية منـزلة القيم على اليتيم باعتبار كفالتها لليتيم، ورعايتها وتربيتها له، وحفظها لماله، وجدنا أن أهل العلم اختلفوا في حكم أكل القيم أو الولي من مال اليتيم لقاء استثماره على قولين، أصحهما أنه يحل لولي اليتيم أو لغيره أن يأخذ لنفسه شيئًا من الربح إذا ضارب بالمال، وهو مذهب الحنفية،[16] وقول للمالكية،[17]وللشافعية،[18] ووجه للحنابلة؛ [19] دلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [20]
ووجه الدلالة: أنه إذا جاز للولي أن يأكل لفقره مع عدم العمل في مال اليتيم؛ فجواز الأكل من ماله مع العمل أولى.
ويشترط للقول بالجواز زوال التهمة، وهي في حق المؤسسات الخيرية أبعد؛ لوجود المراقبة، والعمل الجماعي، وقصد الخير عمومًا.
لكن هل يحق للمؤسسات الخيرية الحكومية أن تأخذ هذا الربح؟.
إذا كانت المؤسسات الخيرية نائبة في عملها عن ولي الأمر؛ فإن الحاكم والقاضي ونحوهم، لا يحل لهم أن يأخذوا شيئًا مقابل عمالتهم؛ لأخذهم رزقًا[21] على ذلك،[22] فإن لم يعطوا جاز أن يأكلوا بالمعروف؛ لقول عمر رضي الله عنه: " إني أنزلت نفسي من مال الله منـزلة مال اليتيم، إن استغنيت منه استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ".[23]
[1] مختص في فقه منتجات العمل الخيري.
[2] ينظر: الموارد المالية لمؤسسات العمل الخيري المعاصر، دراسة فقهية تأصيلية، د. طالب الكثيري، ص(592 - 6033).
[3] ينظر: فتاوى قطاع الإفتاء بالكويت، (3/ 140 - 141).
[4] ينظر: مختصر اختلاف الفقهاء، للجصاص، (5/ 72)، وبدائع الصنائع، للكاساني، (5/ 154)، والبحر الرائق، لابن نجيم، (8/ 534)، والفتاوى البزازية، مع الفتاوى الهندية، (6/ 445).
[5] ينظر: الموطأ، لمالك، ص(196)، والمدونة، له، (4/ 147)، والكافي، لابن عبد البر، (2/ 1033)، والمنتقى، للباجي، (3/ 158)، والذخيرة، للقرافي، (8/ 241).
[6] ينظر: مختصر المزني، مع الأم، (9/ 99)، والحاوي، للماوردي، (5/361)، ونهاية المطلب، للجويني، (5/ 459)، ومغني المحتاج، للشربيني، (2/ 236).
[7] ينظر: المغني، لابن قدامة، (4/ 317)، والمبدع، لابن مفلح، (4/ 338)،والإنصاف، للمرداوي، (5/ 327)، وكشاف القناع، (3/ 449)، وشرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (3/ 483).
[8] [البقرة: ٢٢٠].
[9] ينظر: أحكام القرآن، للجصاص، (1/ 331).
[10] ينظر: مختصر اختلاف الفقهاء، للجصاص، (5/ 73)، والموطأ، لمالك، (1/ 196)، ومختصر المزني، مع الأم، (9/ 999)، والأموال، لأبي عبيد، ص(551)، برقم1308، والمصنف، لعبد الرزاق، (4/ 67)، برقم6984.
[11] الحاوي، (5/ 362).
[12] [النساء: ١٠].
[13] ينظر: الدر المختار، للحصفكي، (8/ 452)، والمنتقى، للباجي، (3/ 161)، وتكملة المجموع، للسبكي، (14/ 124-1255)، ومختصر الخرقي، مع المغني، (4/ 317)، وفتوى اللجنة الدائمة، (14/ 231).
[14] التنضيض: تحول المتاع إلى عين؛ دراهم أو دنانير، ينظر: المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي، لمحمد عثمان شبير، ص(3499).
[15] ينظر: فتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة، (14/ 246).
[16] ينظر: المبسوط، للسرخسي، (28/ 29)، وأحكام القرآن، للجصاص، (3/ 24)، والاختيار لتعليل المختار، للموصلي الحنفي، (5/ 69)، والفتاوى البزازية، مع الفتاوى الهندية، (6/ 445)، والبحر الرائق، لابن نجيم، (5/ 279).
[17] ينظر: منح الجليل، لعليش، (4/ 693)، وتقريراته على الشرح الكبير، (6/ 537).
[18] ينظر: الحاوي، للماوردي، (5/ 363).
[19] ينظر: المبدع، لابن مفلح، (4/ 338)، والشرح الكبير مع الإنصاف، (5/ 3277)، ونقل أنه اختيار ابن تيمية، وقواه المرداوي.
[20] [النساء: ٦].
[21] الرزق: ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين، ينظر: فتح الباري، لابن حجر، (15/ 511).
[22] ينظر: الأصل، لمحمد بن الحسن، (2/ 155)، ومختصر الطحاوي، ص(52)، ورد المحتار، لابن عابدين، (3/ 284- 2855)، واللباب، للميداني، (1/ 154).
[23] أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب (28) السير، باب (59) ما قالوا في عدل الوالي وقسمه قليلاً كان أو كثيرًا، (6/ 463)، برقم329044، والطبري في جامع البيان، (4/ 339)، وابن سعد في الطبقات الكبرى، ذكر استخلاف عمر رحمه الله، (3/ 28)، وابن حزم في المحلى، (7/ 201)، وصححه ابن كثير في تفسيره، (3/ 357)، وأخرجه كذلك البيهقي في كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب ما يكون للوالي الأعظم ووالي الإقليم من مال الله، وما جاء في رزق القضاة وأجر سائر الولاة، (6/ 354)، وزاد: "فإذا أيسرتُ رددته".