مشروع الطبق الخيري
مشروع الطبق الخيري
من الصور المعاصرة التي تعـتني بها المؤسسات الخيرية ما يسمى بمشاريع طبق الخير، وصورتها: أن تقوم مجموعة من النساء المتبرعات بصنع أصناف من الطعام، ثم تُجمع هذه الأصناف في صالةٍ أو خيمةٍ أو مدرسةٍ، أو نحوها،[2] ويسمح للزائرين بالأكل من هذه الأصناف على إحدى طريقتين:
الأولى: أن يحدد لكل صنفٍ من الطعام سعر معين.
والثانية: أن تباع بطاقات للراغبين في الدخول بسعرٍ موحدٍ على الجميع، ويسمح للداخل أن يأكل من جميع الأصناف إلى حدّ الإشباع، وهو ما يسمى (بالبوفيه المفتوح).
ثم تجمع الإيرادات بعد ذلك، ويتم صرفها في مشاريع الخير والإحسان.
التخريج الفقهي لهذه الصورة:
مشروع طبق الخير يُخرّج على كلتا طريقتيه على أنه:
1- عقد تبرع بين النساء صانعات الطعام والمؤسسة الخيرية.
2- وعقد بيع بين المؤسسة والمتناولين لهذه الأطعمة.
والطريقة الأولى انتقدها بعض أهل العلم المعاصرين؛[3] ورجع اعتراضهم إلى عدة أمور:
أ- أنها طريقة مبتدعة في جمع التبرعات.
ويجاب عن ذلك: أن الوسائل المباحة لها أحكام المقاصد، وطرق جمع التبرعات ليست طرقًا توقيفية.
ب- أن في هذه المشاريع النسائية فتنة لما يحصل فيها من تجمعات النساء.
ويجاب عن ذلك: أنه يجب أن تضبط هذه التجمعات بالضوابط الشرعية المعلومة.
ج- ما يحصل في هذه الأطباق الخيرية من صور التكلف التي تجعل من فعل الخير صعبًا على الناس.
ويجاب عنه: بأن هذه المشاريع تشجع الناس على الخير، وتعبر عن صورة من صور التعاون على البر والتقوى، وتُسهل الصدقة على العاجزات عن التبرع بمبالغ كبيرة.
د- أن فيها اختلاط للنيات، ودعوة للمفاخرة والرياء، والإسراف في إعداد المأكولات.
وهذا الأمر ينبغي التنبه له؛ فيمنع التكلف والسرف في صنع المأكولات، ويؤكد على سلامة النية، ومنع ما يفسدها من إشهارٍ للمتبرعات، وإقامة المنافسات، ونحو ذلك.
هـ- ما يحصل في هذا المشروع من إسراف في شراء المطعومات بأكثر مما تستحقه من ثمن، بل قد يكون باهظًا أحيانًا. [4]
وقد يجاب: بأن الأصل في المشتري لهذه الأصناف التبرع؛ بدليل أنه ترك تناول الطعام في جميع المطاعم، وأقبل على الأطباق الخيرية. [5]
وأما الطريقة الثانية في بيع هذه الأطباق فمحل إشكال؛ حيث يشترط لصحة عقد البيع أن يكون المبيع معلومًا، وفي تحديد مقدار الطعام المبيع بحدّ الإشباع نوع جهالة؛ حيث يتفاوت الناس في اختيارهم لنوع الطعام الذي يرغبون في تناوله، كما يتفاوتون في مقداره، وهذا مما يصعب ضبطه.
والجواب عن هذا الإشكال: أن جهالة نوع الطعام ومقداره من الغرر المستثنى من المنع؛ لأحد ثلاثة أسباب:[6]
1- أنه من الغرر اليسير الذي يتسامح الناس فيه عادةً،[7] والغرر اليسير معفو عنه إجماعًا؛[8] ومثله مثل أجرة الحمام، وجواز الشرب من السقاء بدرهم، مع اختلاف الناس في الشرب، وفي استعمال الماء.[9]
2- وعلى فرض كون هذا الغرر غير يسير، فهو مخرج على وجهٍ تنتفي معه الجهالة؛ إذ هو مما يعلم - أو يغلب على الظن - تحديده بالعرف، وقد أجاز المالكية أن يُستأجر الأجير بطعامه، أو الدابة بعلفها؛ لكونه مما يؤول إلى العلم بحسب العرف. [10]
3- وعلى فرض تفاوته كذلك، فإن المؤسسة الخيرية علمت ما ستبيع بما حددت من ثمن، فلا جهالة في حقها، والمشتري غلب عليه قصد التبرع، فما وقع من جهالة في حقه مغتفرة؛ على الصحيح من أقوال أهل العلم في أن الجهالة في عقود التبرعات مغتفرة، وهو مذهب المالكية،[11] وقول للحنابلة،[12] اختاره ابن تيمية؛[13] لأن الأصل في المعاملات الإباحة، وليس ثمة ضرر على العاقدين, فالدافع قصد إهلاك المال في أبواب البر، والآخذ ما حصل له من هذا التبرع فمغنم، وما فاته لم يكن عليه بمغرم.
ومنه يتبين أن القول الراجح هو جواز هذه الأطباق الخيرية بقسميها، ويقوى اتجاه القول بالكراهة لما فيها من اختلاط النيات، والإسراف، فالأولى التصدق بالمال مباشرة إن تيسر.
[1] مختص في فقه منتجات العمل الخيري.
[2] ينظر: الأنشطة الإعلامية الخيرية العاملة في المملكة العربية السعودية، لإسماعيل النزاري، ص(68 - 69)، وقد ذكر أن بعض المؤسسات الخيرية تجري اثني عشر طبقًا سنويًا، يحضر الطبق الواحد ما يقارب ألف سيدة.
[3] ينظر: فتوى الشيخ صالح الفوزان في الإجابات المهمة في المشاكل الملمة، (2/ 67 - 68)، وفتوى الشيخ أحمد النجمي في الفتاوى الجلية عن المناهج الدعوية، (2/ 162 - 1633).
[4] ينظر: فتوى الشيخ ابن جبرين حكم عمل الطالبات الطبق الخيري، فتوى رقم 8107، بموقع الشيخ على الانترنت.
[5] ينظر: فتاوى الزرقا، ص(571 - 572).
[6] ينظر: الموارد المالية لمؤسسات العمل الخيري المعاصر، دراسة فقهية تأصيلية، د. طالب الكثيري، ص(628 - 6311).
[7] ينظر: قرارات الهيئة الشرعية للندوة العالمية للشباب الإسلامي، ص(43)، محضر الاجتماع الثاني عشر، بتاريخ 4/ 11/ 14244هـ.
[8] ينظر: الفروق، للقرافي، (3/ 404)، القاعدة 193.
[9] ينظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (4/ 96)، ومنح الجليل، لعليش، (2/ 561).
[10] ينظر: المدونة، لمالك، (3/ 478-479)، والبيان والتحصيل، لابن رشد، (7/ 312 - 313).
[11] ينظر: الإشراف، لعبد الوهاب، (2/ 678)، وبداية المجتهد، لابن رشد، (2/ 393)، والذخيرة، للقرافي، (6/ 244)، والفروق، (1/ 348)، الفرق 24، والفواكه الدواني، للنفراوي، (2/ 2533)، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني، (3/ 515)، والشرح الصغير، للدردير، مع بلغة السالك، (4/ 141 - 142).
[12] ينظر: الروض المربع، للبهوتي، مع الحاشية، (6/ 6).
[13] ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، (31/ 270)، والإنصاف، للمرداوي، (7/ 133).