المقالات والمطويات » المقالات » فقة منتجات العمل الخيري » الرعاية الرسمية للمشاريع الخيرية

الرعاية الرسمية للمشاريع الخيرية

الرعاية الرسمية للمشاريع الخيرية

أولاً: تصوير المسألة:

صورة هذه المسألة أن ترتبط المؤسسة الخيرية مع بعض الجهات التجارية بعقد، تتكفل بموجبه الجهة التجارية بدفع مبلغٍ معينٍ من المال، مقابل رعايتها لبعض المشاريع الخيرية، وتلتزم المؤسسة الخيرية بتقديم مجموعة من الخدمات الإعلانية للجهة التجارية، ومن أمثلة تلك الخدمات: [2]

‌أ- الإعلان عن اختيار الراعي من خلال مؤتمر صحفي.

‌ب- طباعة اسم وشعار الراعي على دعوات المؤتمر، واللوحات الإعلانية، والمطبوعات التعريفية الخاصة بالمشروع الخيري، وضمن الحملات الدعائية، والهدايا وشهادات التقدير والدروع التذكارية.

‌ج- تخصيص مساحة إعلانية لتسويق خدمات الجهة الراعية في دليل  المشاركين، وموقع المشروع الخيري على الانترنت.

‌د- تخصيص جناح بمساحة محددة في أرض المشروع الخيري؛ للتعريف  بأنشطة الراعي وخدماته, وتسويقها.

‌ه- إتاحة الفرصة للجهة الراعية لحضور الحفل الافتتاحي أو الختامي  للمشروع، أو إلقاء كلمة خلاله، أو المشاركة في اللقاءات الصحفية والإعلامية.

‌و- توجيه شكر خاص للراعي في البيان الصحفي الختامي.

 

وقد تُختصر بعض هذه الخدمات أو يضاف عليها بحسب حجم المشروع الخيري، وبحسب درجة الرعاية المقدمة من قبل طالب الرعاية؛ إذ جعلت المؤسسات الخيرية المستفيدين من هذه الرعاية على درجات بحسب المبالغ المقدمة منهم، فهناك الراعي البلاتيني، والماسي، والذهبي، والفضي، وبحسب مستوى الرعاية تزداد الخدمات الإعلانية، وتتسع مساحتها.

 

وقد تتولى الرعاية جهة واحدة فقط، تتكفل بجميع المصاريف لإقامة المشروع، ويطلق عليها اسم الراعي الحصري، وقد تكون الرعاية خاصة بتقديم عمل معين؛ كالراعي الإعلامي، أو الراعي الناقل، أو الراعي الفضائي، ونحوها.

 

ثانيًا: التخريج الفقهي لهذه الصورة:

يحتمل لهذه الصورة عدة تخريجات:

التخريج الأول: أنها عقد إجارة.

ووجه هذا التخريج: أن الشركة الراعية قدمت مبلغًا من المال مقابل تقديم  عمل دعائي بمواصفات محددة من قبل المؤسسة الخيرية، وهي صورة عقد الإجارة.

 

ويعترض على هذا التخريج من وجهين:

الأول: أن المؤسسة الخيرية ليست شركة دعاية وإعلان أصالةً، ولو أرادت  الشركات الراعية عقد الإجارة على الدعاية والإعلان لاتجهت إلى الجهات المتخصصة في ذلك.

والثاني: أن المؤسسة الخيرية لا تقدم العمل فقط، بل وقد تقدم كذلك  الأعيان التي تعمل فيها، وهذه صورة عقد الاستصناع؛ لاشتماله على بيع وصناعة. [3]

 

التخريج الثاني: أنها عقد جعالة.

ووجه هذا التخريج: أن بعض الأعمال الدعائية التي يتفق عليها مع  المؤسسة الخيرية مجهولة، وإنما يتم التعاقد على حصول النتيجة المرادة أو حصول العمل في الجملة، وهذه صورة الجعالة. [4]

 

ويعترض على هذا التخريج من وجهين:

الأول: أن العامل في العقد معين، وكذلك العمل الدعائي يُحدد قدره  ومساحته وصوره، ويُوّقع في هذا عقد مفصل بين المؤسسة الخيرية والشركات الراعية؛ فهو إلى الإجارة أقرب منه للجعالة.

والثاني: أن المؤسسة الخيرية تستحق الأجرة بمجرد قيامها بالأعمال  الدعائية، دون تعلق استحقاقها للأجر بحصول نتيجة هذه الدعاية.

 

التخريج الثالث: أن هذه الرعاية تعـتبر نوعاً من عقود السلم في المنافع.

وقد عرف عقد السلم بأنه عقد على موصوف في الذمة بعوض يعطى عاجلاً. [5]

 

ووجه التخريج: أن الراعي يقدم الثمن، ويحصل على المنفعة لاحقاً؛ شيئًا  فشيئًا.

 

ويعترض على هذا التخريج من وجهين:

الأول: أن الراعي قد يؤخر تسليم الثمن، وهذا يفسد عقد السلم.

والثاني: أن الأحناف خالفوا في جواز السلم في المنافع؛ لأنها ليست  أموال عندهم.

وأجيب: أن المنافع لها قيمة ينتفع بها شرعًا، وحدّ المال كل ما له قيمة منتفع بها شرعًا. [6]

 

التخريج الرابع: أنها عقد من عقود الاستصناع.

وقد عرف الاستصناع بأنه: "بيع عينٍ، شُرط فيه العمل". [7]

ووجه هذا التخريج: أن هذه المنفعة الدعائية من صنع المؤسسة الخيرية، فهي إلى عقود الاستصناع أقرب، ولا يشترط في عقود الاستصناع كون الثمن مدفوعًا مقدمًا.

 

ويعترض على هذا التخريج من ثلاثة وجوه:

الوجه الأول: أن عقد الاستصناع من العقود المختلف فيها بين أهل العلم.

ويجاب عن هذا الاعتراض: بأن الراجح من أقوال أهل العلم جواز عقد الاستصناع؛ لأن الأصل في المعاملات الإباحة، ولما أخرجه البخاري[8] عن  ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اصطنع خاتمًا من ذهب، وجعل فصه في بطن كفه إذا لبسه، فاصطنع الناس خواتيم من ذهب، فرقى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، فقال: "إني كنت اصطنعته، وإني لا ألبسه"، فنبذه، فنبذ الناس، ووجه الدلالة من الحديث: في قول الراوي: "اصطنع خاتمًا من ذهب"؛ أي أمر أن يُصنع له، وفعله -صلى الله عليه وسلم- دليل على جواز عقد الاستصناع.

 

الوجه الثاني: وهو أن العقد بين المؤسسات الخيرية والشركات التجارية  على الرعاية لا يظهر فيه اشتراط أن تكون الخدمات الدعائية من صنع المؤسسات الخيرية، بل الغالب أن المؤسسات الخيرية تُكلف غيرها في القيام بإعداد هذه الخدمات.

ويمكن أن يجاب: أن هذا التكليف عقد آخر من عقود الاستصناع، وهو المسمى الاستصناع الموازي.[9]

 

الوجه الثالث: أن كثيراً من هذه الخدمات لا تحتاج إلى أعيان لتصنيعها، بل  هي في الغالب مجرد عمل، والأعيان المستخدمة في هذا العمل من العادة أن تكون معه، ولا تفرد عنه؛ فأشبهت استئجار الصباغ والنساخ الذين يقدمان الصبغ والحبر من عندهما.[10]

 

التخريج الخامس: أنها هبة مقيدة بالثواب.

ووجه التخريج: أن طالب الرعاية تبرع للمشروع الخيري بدعمه في مقابل  أن تقوم المؤسسة الخيرية بتقديم بعض الأعمال الدعائية، وهي صورة الهبة بشرط.

 

ويمكن أن يعترض على هذا التخريج من وجهين:

الأول: أن تبرع الشركات لا يحمل على الهبة، بل هو صدقة؛ لظهور قصد  نفع المحتاجين من مشاريع المؤسسات الخيرية، والصدقة من العبادات، ويحرم أن يستعيض المسلم عن عبادته بعوض مادي، قال النووي - رحمه الله -: "ولا يجب في الصدقة ثواب بكل حال قطعًا، صرح به البغوي وغيره، وهو ظاهر، وأما الهدية فالظاهر أنها كالهبة". [11]

والثاني: أن صورة التبرع بشرط القيام بعمل؛ هي صورة الإجارة، وقد  سبقت.

 

التخريج السادس: أن صورة العقد صورة تبرع بشرط أن يُذكر المتبرع بخير.

ووجه هذا التخريج: أن الغالب على فعل الشركات عند تبرعها برعاية  المشاريع الخيرية قصد التبرع لها؛ بدليل أنها تقدم مبالغ من المال تفوق المبالغ التي تستحقها هذه الخدمات، مقارنةً بما لو قدمت من قبل شركات إعلانية متخصصة.

 

ويمكن أن يعترض على هذا التخريج: أن للتعاقد مع المؤسسة الخيرية مزايا ترويجية وإعفاءات حكومية خاصة، لا تحصل إذا تعاقدت هذه الجهات مع شركات الإعلان.

 

الترجيح بين التخريجات السابقة، والقول المختار في المسألة:

من نظر إلى العقود الموقعة بين المؤسسات الخيرية والجهات التجارية حاضنة الرعاية يُغلب جانب كون هذه الرعاية من قبيل الإجارة؛ خصوصًا إذا نُظر إلى دقة تفاصيل الخدمات الإعلانية المتفق عليها؛ من جهة المساحة، والقدر، والزمن، ونوعية الخدمة المقدمة ودرجتها، مما يُظهر أن قصد المماكسة واستيفاء الحق ظاهر في العقد، غير أن هذا ليس عامًا، بل كثير من الرعاة يظهر بجلاء في قصد رعايتهم ملمح التبرع والإحسان، خصوصًا مع صغر حجم المؤسسة ومشروعها الخيري، ومع عدم حرص الراعي على الدخول في هذه التفصيلات، وهذا ما أكده واقع السؤال والتجربة، وعليه ففي المسألة تفصيلٌ: [12]

أ‌- إن ظهر قصد المعاوضة بالحرص على استيفاء حق الخدمة الإعلانية، وتوضيح حدودها في العقد، وقصد الراعي لها أصالةً، فهو عقد إجارة، لا بدّ من استيفاء شروطه.

 

ب‌- وإن ظهر غلبة قصد التبرع؛ خصوصًا مع غياب ما ذُكر أولاً، فالعقد تبرع وإرفاق، لكن هل يجوز للمتصدق أن ينتفع بصدقته؟.

الجواب: لا يجوز للمتبرع أن ينتفع بصدقته الواجبة؛ لأنها تعينت طاعة لله تعالى،[13] لكن لو كانت من تبرعاته المندوبة، ففي المسألة تفصيلٌ آخر:

 إن كانت إرادته للدنيا هي أصل قيامه بهذا التبرع، ولم يرد من تبرعه إلا الدنيا؛ فعبادته باطلة؛ لقوله تعالى:﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 15، 166][14].[15]

 

 وإن اختلطت نيته للثواب بطلب الدنيا نقص من أجر صدقته بحسب اتجاه  نيته للأمور الدنيوية، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيمن جاهد لأجل المغنم: "تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث".[16]

 

 وإن كانت الأمور الدنيوية قد حصلت تبعًا، من غير استشراف فلا حرج  عليهم، وأجرهم على الله، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر -رضي الله عنه- لما أراد أن يمتنع من أخذ عطائه: "خذه فتموله، وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مُشْرِف[17] ولا سائل فخذه، وإلا فلا تتبعه نفسك".[18]

 

قال ابن تيمية - رحمه الله-: " وأما من اشتغل بصورة العمل الصالح لأن يرتزق، فهذا من أعمال الدنيا، ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة، ومن تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلة، والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق؛ كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها"،[19] وقال  القرافي - رحمه الله-: " وأما مطلق التشريك كمن جاهد ليُحصّل طاعة الله بالجهاد، وليحصّل المال من الغنيمة، فهذا لا يضره ولا يحرم عليه بالإجماع؛ لأن الله تعالى جعل له هذا في هذه العبادة... وكذلك من حج وشرّك في حجه غرض المتجر؛ بأن يكون جل مقصوده أو كله السفر للتجارة خاصة، ويكون الحج إما مقصودًا مع ذلك، أو غير مقصود، ويقع تابعًا اتفاقًا فهذا أيضًا لا يقدح في صحة الحج، ولا يوجب إثمًا ولا معصية... نعم لا يمنع أن هذه الأغراض المخالطة للعبادة قد تنقص الأجر، وأن العبادة إذا تجردت عنها زاد الأجر وعظم الثواب، أما الإثم والبطلان فلا سبيل إليه".[20]

 

ومع القول بالجواز ينبغي التأكيد على ما يلي:

1- تحري الإخلاص في العمل، والحذر من إرادة الدنيا بعمل الآخرة.

2- مراعاة الشروط الواجب توفرها لمشروعية الإعلان؛ كالصدق، والنصح  في البيان، وعدم التدليس أو الغشّ، وكون المعلن عنه مباحًا فقهًا ونظامًا، وألا يترتب على الإعلان إلحاق ضرر بالآخرين. [21]



[1] مختص في فقه منتجات العمل الخيري.

[2] ينظر: الموارد المالية لمؤسسات العمل الخيري المعاصر، دراسة فقهية تأصيلية، د. طالب الكثيري، ص(634-6355).

[3] ينظر الفرق بين الأجير والصانع والبائع الصانع: الشرح الكبير، للدردير، مع حاشية الدسوقي، (5/ 3388).

[4] ينظر: روضة الطالبين، للنووي، (5/ 274).

[5] ينظر: رد المحتار، لابن عابدين، (7/ 454)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (4/ 315)، وتكملة المجموع، للسبكي، (13/ 1066)، والمغني، لابن قدامة، (4/ 338).

[6] ينظر: قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، (1/ 132).

[7] المبسوط، للسرخسي، (15/ 84).

[8] في كتاب (77) اللباس، باب (53) من جعل فص الخاتم في بطن كفه، ص(1257-1258)، برقم58766.

[9] الاستصناع الموازي: هو مقاولة من الباطن، حيث يتعاقد طالب  الاستصناع مع جهة معينة؛ لتقوم بصناعة سلعة معينة له، ثم تقوم هذه الجهة بالتعاقد بعقد استصناع آخر مع مختصين في صناعة هذه السلع على نفس المواصفات المطلوبة في العقد الأول، ثم تستلم هذه الجهة السلعة المصنوعة، وتقوم بتسليمها للمستصنع الأول، ينظر: الخدمات الاستثمارية في المصارف، للشبيلي، (2/ 532-533).

[10] ينظر: روضة الطالبين، للنووي، (5/ 209)، والمغني، لابن قدامة، (6/ 1388).

[11] روضة الطالبين، (5/ 386).

[12] ينظر: الإشكاليات الفقهية العشر أمام منتجات العمل الخيري والعمل المصرفي، د. طالب الكثيري، ص(39-433).

[13] ينظر: رد المحتار، لابن عابدين، (3/ 293)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، (2/ 110)، والمجموع، للنووي، (6/ 2199)، والمغني، لابن قدامة، (2/ 509).

[14] [هود: ١٥ – ١٦].

[15] ينظر: أحكام المسابقات التجارية، لعبد الله الجبرين، ص(40-42).

[16] أخرجه مسلم، في كتاب (33) الإمارة، باب (44) بيان قدر ثواب من غزا فغنم، ومن لم يغنم، ص(791)، برقم19066، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-.

[17] أي غير متطلع إليه ولا طامع فيه، يقال: أشرف الشيء علاه، وأشرفت عليه: اطلعت عليه من فوق، ينظر: النهاية، لابن الأثير، (2/ 4622)، وفتح الباري، لابن حجر، (15/ 54).

[18] أخرجه البخاري، في كتاب (93) الأحكام، باب (17) رزق الحكام والعاملين عليها، ص(1502)، برقم7163، ومسلم في كتاب (122) الزكاة، باب (37) إباحة الأخذ لمن أعطى من غير مسألة ولا إشراف، ص(401)، برقم1044، عن عمر -رضي الله عنه-.

[19] مجموع الفتاوى، (26/ 20).

[20] الفروق، (3/ 9-12)، الفرق (122) بين قاعدة الرياء في العبادات، وبين  قاعدة التشريك في العبادات.

[21] ينظر: الضوابط الموضوعية للإعلانات التجارية، لعبد الله العضيب، ص(45-655)، وأحكام الإعلانات التجارية والجوائز الترويجية، لمحمد الكاملي، ص(184-192).

حقوق النشر محفوظة لدى موقع الشيخ طالب بن عمر الكثيري (©)